مازلت أسيرة أبدية للنسيان، وكلما عاتبت ذاكرتي صفعتني بذكرى حزينة من إنكسارات الماضي. هل يعقل هذا؟ طبعاً لا يمكنكم تصديق كل هذا الهراء، وقد يتهمني بعضكم بالمبالغة.
أكثر من ثلاث مرات خانتني الذاكرة وجعلتني أنسى موعدي مع طبيب الأسنان، في المرة الرابعة كان عليّ أن أدفع غرامة مالية لأباشر تسجيل بياناتي وأحجز لموعد جديد، أما في المرة الخامسة فقد اعتذرت الممرضة عن استقبالي مجدداً في العيادة، بسبب إهدار وقت الطبيب والمرضى وعدم احترامي للمواعيد المقدسة. الذاكرة، هي الكائن الوحيد الذي يخوننا ورغم ذلك نضطر إلى مواصلة العيش معه صاغرين، خوفاً من قضاء بقية سنوات العمر في التسكع في شوارع النسيان.
منذ خمس سنوات، بدأ العد التنازلي لأداء ذاكرتي بالهبوط التدريجي إلى مستويات متدنية جداً، حتى أصبحت أنسى تقريباً كل أنواع المواعيد والذكريات، فإذا تذكرت أحداثاً قديمة مثلاً فلايمكن أن أتذكر التفاصيل، وإذا تذكرت موعداً لفحص النظر فلا يمكن أن أتذكر الرقم السرّي لبريدي الإلكتروني!
وهكذا، تكفلت ابنتي في الآونة الأخيرة بمحاولات فاشلة لتنشيط ذاكرتي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قائمة المواعيد المهدورة؛ حيث تتنقل بخفة فراشة من مكان لآخر في المنزل لتوزع الملصقات الصغيرة الملونة التي تحمل تواريخ المواعيد على سطح الثلاجة، على ورقة التقويم، على المرايا، زوايا رفوف المكتبة، ثم تنقلها على شكل نغمات وأصوات تنبيه مزعجة إلى هاتفي النقّال لتوقظني في الصباحات الباكرة.
وعدا المواقف المحرجة التي تضعني فيها ذاكرتي الهشة مع الناس، فإن النسيان يبدو نعمة يحسدني عليها بعض الأعداء والكثير من الأصدقاء، وأنا أتفق معهم تماماً؛ فلولا نعمة النسيان لمات الناس كمداً، لكن الذاكرة المثقوبة تعمل في العادة مثلما تعمل مصفاة تحضير الطعام، حيث لا تخرج من ثقوبها إلا الشوائب البسيطة غير المرغوب فيها، وأما المكوّن الرئيس للطبخة فيبقى مستقراً ومتشبثاً في قعرها، وهكذا تبدو الذكريات التي تسقط من ثقوب الذاكرة الضعيفة؛ شوائب بسيطة تكاد لا تذكر وأما الذكريات العنيدة التي تأخذ وقتها في مراجل الذاكرة تغلي ثم تتابع نضوجها على نار هادئة، فإنها نادراً ما تمنح نفسها للنسيان، الذكريات العنيدة هي إنكساراتنا وخسائرنا وأحلامنا الموءودة.
تتغير الذاكرة مع التقدم في العمر وازدحام الأفكار وتعدد المهام التي ندعي إمكانية إنجازها في وقت واحد، وحين تبدو ملكة تعدد المهام كالاسفنجة التي تمتص كل ما يصل للدماغ من وقود “جلوكوز”، فلن يتبقى شيء لذاكرة عجوز سرعان ما تتدهور وتضعف لطول صومها. أما الأفكار، فيعتقد بعض العلماء بأن حصتنا منها تقارب السبعين ألف فكرة يمكن أن تتبادر إلى الذهن يومياً! وعندما تكون هذه الأفكار معقدة ومتشابكة، فحتى وقود الديزل الذي يشغل أعتى أنواع المحركات، لا يستطيع أن يفك اشتباكها.
لكن، حين يحلو لي أحياناً أن أمارس هوايتي المفضلة في جمع المعلومات عن كل شيء وأي شيء، أستعين بذاكرة الكمبيوتر لحفظ بعض الملاحظات والومضات المهمة لأعود إليها في وقت لاحق، حتى أخذت الملفات تتراكم يوماً بعد يوم بعد أن قطعت درباً طويلة من ذاكرتي إلى ذاكرة الكمبيوتر، فأصبح من الصعب استرجاعها من أماكن تخزينها المتشعبة إلى سطح المكتب.
مازلت أسيرة أبدية للنسيان، وكلما عاتبت ذاكرتي صفعتني بذكرى حزينة من إنكسارات الماضي. هل يعقل هذا؟ طبعاً لا يمكنكم تصديق كل هذا الهراء، وقد يتهمني بعضكم بالمبالغة. ساعترف لكم، قبل أن أنهي هذا المقال: كنت سأكتب عن موضوع آخر، لكني تعرضت قبل قليل للخيانة؛ فنسيت أين وضعت الملف الخاص به!
نقلا عن العرب