جلسَ صديقنا العزيزُ (أبا عباسْ ) ، بعدُ أنْ تقاعدَ منْ وظيفته، في ستينياتِ القرنِ الماضي، في مقدمةِ أحدِ مقاهي حارتهِ الشهيرة، التي تقعُ في نهايةِ الشارعِ المؤدي إلى زقاقهِ ، وكان جلوسه بجانبِ صاحبِ المقهى قربَ صندوقِ الدخل، كما كانَ يسمى سابقا. وينظرَ بعيونهِ التي تتلاطمُ كموجِ البحرُ يمينا ويسارا، وبنظراتٍ ثاقبة، كأنها عيونٌ زرقاءْ اليمامة إلى القادمِ والمغادرِ منْ هذهِ الحارة. بعدُ أنْ يرتجفَ عددٌ منْ أكوابِ الشايِ والحامضِ عند (أبو محمودْ الكوهجي ) ، وأذانهُ صاغية لكلِ صوت أو حديثٍ يطرحُ منْ جالسي المقهى، بسمعها السريع، كأنها للقطاتِ صوتٍ تجسسيةٍ عائدةٍ إلى المخابراتِ الروسيةِ (KGB) أوْ المخابراتِ الأمريكيةِ (CIA ) ، لكلِ حديث يطرح في القيلِ والقالِ والنفاقِ والغيبةِ والنميمةِ ، بقصدِ أوْ – دونَ قصدِ– منْ أقوالِ الجالسينَ في المقهى في مواضيعَ شتى، مثل: السياسة، الاقتصادُ والمال، شؤونُ الدين، القانون، الطبُ والأعشابُ الطبيةُ ، وحتى في تصليحِ الثلاجاتِ وطباخاتِ الغاز، أوْ الزواجِ والخطبةِ والمكياج، أوْ القمارِ والروليت، وكلَ شؤونِ الحياةِ والمجتمع.
يصدر؛ أبا عباس: (أبو الفهيمْ ) – مثلٌ ما يسمى في أمثالنا الشعبية- بعد الاستماع الى المشاكل التي تطرح من الحضور ،أحكامهُ وفتاويهُ منْ قنفتهُ الخشبيةُ ذاتُ الحصيرِ السعفي منْ أولِ طرحها، وليس من منصة المحكمة، ولايستمعَ إلى وجهات النظر الأخرى، أو المتخصصينَ في الشأنِ المطروح، وتعتبرَ قراراتهِ قطعية، ولا يسمحُ لمناقشتها منْ قبلُ الحضور، وإلا عصب عليهم ، وزعل، أو ينعت من يخالفه الرأي ببعض النعوت السائدة في ساحة الميدان في أربعينيات القرن الماضي لبائعات الهوى، دونُ مرورها بمراحلِ الطعنِ الأخرى في الاستئنافِ والتمييزِ وتصحيحِ القرارِ أوْ إعادةِ المحاكمة، معززة، أحيانا، ببعضِ الأسانيدِ منْ الآياتِ الكريمةِ والأشعارِ والأقوالِ لبعضِ الفلاسفةِ منْ العربِ واليونايين، ومرات، ببعض هوساتْ المهاويلْ منْ محبي عملةِ ( الخمسةِ والعشرينَ الحمراء )، لكلِ هوسة تتبعها دبكةِ قوية تهز الأرض ومن عليها، وسطَ الحضورِ المشرف للشيخ ومعازيبه.
بعد هذهِ المقدمة التأريخية، تعيدَ لي ذكراها هذهِ الأيام، وأنا أتابعُ بعضُ المحللينَ لبعضِ القنواتِ التلفزيونية، وليسَ الكل، لمختلفِ المواضيعِ التي تطرحُ للنقاشِ منْ قبل مقدمَ البرنامجِ وما أكثرها، فيقومُ الضيفُ الكريم، بتحليلِ السؤالِ المطروحِ منْ قبلُ المذيع، ويعطي الجوابُ في لحظته، كأنهُ منْ حملةِ الذكاءِ الصناعيِ ومطبوعةً الإجابة في دماغهِ داخلَ رأسهِ المضلع.
في بعضِ الأحيان؛ يتعصب، يضحك، يستهزئَ بالمحاورِ الذي يقابله، أوْ يتهمهُ بالخيانةِ أو العمالة أوْ الإلحاد، أوْ التنمر، لمجرد اختلاف الرأي معه، أوْ ربما، يبكي ويستنجدُ ليكسب عطف المشاهد، بالقول: لقدْ ضاعَ الوطن، ضاعتْ حقوقُ الإنسان، ضاعَ الدوريُ العراقي، بعدٌ وفاةِ عمومِ بابا، بالمقابلِ أحيانا، قدْ يتحولُ صاحبنا، كما يقالُ في الفلسفةِ إلى الفضولي، الذي يتدخلُ في كلِ شيء، يعنيهُ أوْ لا يعنيه ، المهم تطبيق مبدأ ( خالف تعرف).
إنَ هذا التحولِ الشخصيِ للبعضِ إلى محللينَ لبعضِ القنواتِ التلفزيونيةِ نتيجةَ حرمانهمْ في حياتهمْ منْ الظهورِ في المجتمع، لأسبابِ عدة، نتيجةٌ مثلمةٌ قانونيةٌ في سيرتهمْ الوظيفيةِ أوْ المجتمعية، أوْ الخوفِ منْ سلطاتِ النظامِ السابق، أوْ الخجلِ العائليِ والعشائري، فخيرُ تعويضا لذلك، يكون منْ خلالِ الظهورِ التلفزيوني في الوضع الديمقراطي الجديد، ليصبح محللاً تلفزيونياً، ويقدم الإجابةَ الجاهزة لكلِ طرحِ أمامه ولكل شؤون العلم والمعرفة، وربما يتحولُ إلى متفلسفٍ لكلِ شؤونِ الحياةِ بمفاصلها المتعددة ليعوضَ (عقدُة النقصِ ) التي اعتاد عليها أمام المجتمع الذي يعيش فيه، فيطرحُ أفكارا جديدة، غيرَ معقولةٍ وغيرِ مبنيةٍ على حقائق، وليسَ لديهِ معرفةُ بها، مجردُ تدخلٍ فضوليٍ منْ قبلهِ للبتِ فيها، أمامَ المشاهدِ التلفزيوني، ليدغدغ بعضُ عواطفِ الجمهورِ الفقير، أوْ المتخلفِ أحيانا، ويثيرهمْ ضدَ طرفِ أوْ خصمِ آخر ، أو لشيءٍ في نفسِ يعقوب، لسدِ هذا النقصِ التكويني في شخصيتهِ عبرَ إثارةِ الفتنِ والأقاويلِ لتسقيط البعض منْ أجلِ أنْ يقالَ له، إنهُ (أبو الفهيم) ، أو ربما بكيس من الذهب من بيت مال المسلمين من الملك أو الأمير أو من حاشيته، ونختم مقالنا بالقول: رحمَ اللهُ امرأً عرفَ قدرَ نفسه.