بعد (كذا) عام من الحرب العراقية- الايرانية، تساقطت اقنعة النظام الايراني، قناعاً أثر قناع، ليسفر وجهه القبيح عن ايديولوجية ظاهرها غير باطنها، خلاصتها شوفينية عنصرية ضد العرب، وطائفية مقيتة ضد المذاهب الاخرى. ولو اقتصر الامر على القناعة فحسب، وعلى الدعاية فقط، لهان. لكنه تعدى ذلك الى محاولة التوسع الاقليمي باستخدام القوة المسلحة من الخارج، وتصديع الوحدة الوطنية للجيران بالارهاب والتخريب، وتأجيج النعرات الطائفية من الداخل، والتمسك بالمكاسب الاقليمية التي حصلت ايران عليها بالقوة المسلحة في العهود السابقة، وسوغ كل ذلك بحجج شوفينية تارة، وطائفية تارة اخرى، واستعان علينا باعدائنا التاريخيين. وأصر النظام الايراني على هذا النهج ضد الاجماع الدولي والاسلامي والعربي.
لقد سرق هذا النظام ثورة الشعب الايراني بقومياته كافة، وحطم الآمال التي عقدتها عليها شعوب المنطقة لوأد الاطماع الاجنبية والاحقاد العنصرية والجاهلية، والمنازعات الموروثة من عصور الامبراطوريات والاستعمار، من اجل استبدال علاقات الصراع بالتفاعل، والحرب بالسلام، وفتح صفحة جديدة تعيد اللحمة التي نسجها الاسلام بين الشعبين طيلة اربعة عشر قرناً من الزمن، وتوصل ما انقطع بينهما من تفاعل انساني، بروح العصر ونفس التراث، وعلى قاعدة التحرر الوطني.
عندما انتصرت الثورة الايرانية عام 1979، توهمنا –الاصح توهم البعض منا- اننا كسبنا عمقاً استراتيجياً ضد العدو الصهيوني، لنصحو من وهمنا على فتح جبهة شرقية ضدنا شقت عمقنا الاستراتيجي العربي، وتوهمنا ان دور الشرطي الايراني قد انتهى وان ايران تحولت الى ثورة تضاف الى قوتنا ضد جميع الشرطة الغرباء القادمين لارهابنا من وراء البحار، فاذا بالنظام الجديد يصبح بعربدته واطماعه بحاجة الى شرطة دولية لكبح جماحه، توهمنا ان اربعة عشر قرناً من التاريخ والتفاعل الاسلامي المشترك بين القوميتين قد انتصرت ووجدت اخيراً فرصة تاريخية نادرة لتسوية نزاعات الحدود الموروثة والبدء في مرحلة جديدة من التعايش السلمي البناء لنجد ان النظام الجديد يريد القضاء على كل ما كان مشتركاً وبناء ليفتح بحاراً من الدم ويبني اسواراً من العداء ويقيم جبالاً من الاحقاد تدفن تحت الخراب والحطام والجثث كل امل في التعايش والاستقرار الاقليمي لكي يتسنى له بناء (غيتو) طائفي محصن ضد التفاعل مع الآخرين بغير توسيع نطاقه الجغرافي، وتوهمنا ان يتحول امتدادنا القومي الواقع تحت سيادتهم ومحجاتهم الدينية الواقعة تحت سيادتنا، الى صلات وصل ورحم وايدي سلام وتفاعل انساني ممتدة في الجانب الآخر، فاذا بهم يريدونها طوابير خامسة، وجيوب تخريب ومصادر نزاع وذرائع لاثارة الفوضى الاقليمية التي تساعدهم في تحقيق اطماعهم التوسعية.
عندما انتصرت ثورتهم، توهمنا ان الشعب الايراني قد ملك مصيره اخيراً وانه سيضع نهاية لخط بياني متصاعد لعملية قضم وتوسع اقليمي على حسابنا ظل المتحكمون بمصير الشعب الايراني يمارسونها منذ حوالي خمسمائة عام. واذا كان مفهوماً في عصور الحضارات القائمة على الزراعة ان يهبط سكان الهضبة الايرانية
كلما عضهم الجوع او غلبهم الطمع، الى السهول الغربية ووادي الرافدين بحثاً عن شبع او طمع في ثروة، واذا كان مفهوماً بعد اكتشاف النفط في عربستان وبين ظهراني العشائر العربية ان يستعين حكام ايران المتعاقبون بالاستعمار الغربي لتحقيق مكاسب اقليمية في الارض العربية مقابل تقديم عونهم له في نهب الثروات العربية، اذا كان ذلك مفهوماً فيما مضى، فانه ليس مفهوماً على الاطلاق ان يستمر النهج نفسه بعد ثورة تدعي انها قامت بالشعب وللشعب، وانتصرت بقوة الايمان المشترك مع العرب في العقيدة نفسها، وانها ضد الاستعمار من اي اتجاه هبت ريحه الا اذا كان الحكام الجدد من نفس طينة المتحكمين قبلهم بمصير الشعب الايراني نهجاً واطماعاً.
منذ عام 1520، وقعت ثماني عشرة معاهدة بين الدولة الفارسية وجيرانها في الغرب، ووقعت فارس القديمة وايران الحديثة كل واحدة منها بعد ان ألغت سابقتها بتوسع مسلح جديد، ثم توثق مكاسبها الاقليمية منه بمعاهدة لاحقة.
بهذا المنهج التوسعي المراوغ حازت ايران السيادة على عربستان وحوض نهر كارون والسهل الواقع الى الشرق من نهر بهمشير، وذلك قبل عام 1847، وبموجب معاهدة ارضروم الموقعة في 31/ ايار من العام نفسه، قضمت جزيرة عبادان (جزيرة خضر) بكاملها مع مدينتي عبادان والمحمرة، ورسخت حدودها على الضفة الشرقية لشط العرب امتداداً من مصبه في الخليج جنوباً الى نقطة ملتقى الحدود البرية الى الشرق من جزيرة ام الرصاص وحسب بروتوكول الاستانة لعام 1913، ومحاضر عام 1914، قضموا عدد من الجزر الواقعة في شط العرب منها جزر غبيش ومعاوية والدواسر والحاج صلبوخ، ورسخوا حدودهم الجديدة هذه بمعاهدة عام 1937، التي الغتها ايران من جانب واحد بمحاولات مسلحة جديدة للتوسع استمرت حتى حازت ايران السيادة على نصف شط العرب، على اساس قاعدة خط الثالوك طبقاً لاتفاقية الجزائر في عام 1975.
وعندما قامت الثورة في ايران عام 1979، لم يكن تنفيذ اتفاقية الجزائر قد اكتمل بتسليم العراق الاراضي العائدة له بموجب هذه الاتفاقية، وتذرع النظام الجديد بظروف الثورة ليؤجل تسليمها لكي يتمسك بها بعد ذلك كمكاسب اقليمية جديدة، والى الشمال من شط العرب احتلت ايران ايضاً (زين القوس) و (سيف سعد) و (جبل ميمك) وغيرها من المناطق على امتداد الحدود البرية بين البلدين.
والى الجنوب من شط العرب توسعت ايران ايضاً غرباً عندما احتلت بالقوة في عام 1971 الجزر العربية الثلاث، ابو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى في الخليج العربي، فوسعت مياهها الاقليمية الى وسط الخليج ومدخل مضيق هرمز، واحتلت لسان الفاو في عام 1985، وهي تستخدم مكاسبها الاقليمية الجديدة، قواعد لمزيد من التوسع والتهديد باستخدام القوة، ولا شك انها تراوغ لحد اللحظة لترسيخ هذه المكاسب بمعاهدة جديدة ستقوم بالغائها مثل عادتها عندما تكون قد استعدت لتوسع جديد.
لقد نص قرار مجلس الامن الدولي رقم 598، على سحب قوات البلدين الى الحدود المعترف بها دولياً. فما هي الحدود الدولية المعترف بها من ايران يا ترى؟ وهل حدودها مفتوحة تنتهي حيث تقف قواتها، مثل حدود اسرائيل؟
عندما انتصرت الثورة الايرانية، توهمنا ان هذا الخط البياني المتصاعد للتوسع سيتوقف وربما ينحدر لتبدأ صفحة جديدة بين القوتين والشعبين، لنكتشف فقط انه لا فرق بين الشاه الذي خصص للبحرين مقعدين في برلمانه (الامعة) وبنى صدر الذي اعلن عدم وجود حدود بين الاقطار الاسلامية، والنظام الحالي الذي يدعي بعائدية البحرين وعمان واليمن والعراق لايران.
لقد آن لهذا الخط البياني المتصاعد للتوسع ان يتوقف، وحان الوقت لكي ينتهي هذا النهج العدواني المراوغ،فهو يعيش خارج العصر. ان العالم لم يتدخل في الشؤون الداخلية لالمانيا عندما عربد وصال رجلها هتلر. لكنه عندما انتهج التوسع بحجج شوفينية عنصرية، وراوغ لضمان المكاسب الاقليمية التي حصل عليها بالقوة المسلحة، وخرج على قواعد اللعبة الدولية واعرافها وقوانينها، واصبح نهجه خطراً على الامن الاوروبي الاقليمي ثم على السلام العالمي، تحرك العالم يمينه ويساره، بعد فوات الاوان، لاحتواء اطماعه، ولم يكتف بتجريده من مكاسبه بل قرر قطع رأس الافعى وغير النظام النازي نفسه وقسم المانيا ووضع لها دستوراً يضمن لها سلوكاً متمدناً حتى تموت آثار النازية فيها، واعتبر العالم كل ذلك شأناً دولياً وليس شأناً داخلياً لالملنيا.
والنظام الحالي في طهران خرج بها من العصر، ويريد اعادتها الى عصر الفتوحات الامبراطورية، وخرج على قواعد اللعبة الدولية واعرافها وقوانينها، ويريد تسخير النتاج المادي لعصر الصناعة والتكنولوجيا والفضاء لخدمة قواعد واعراف عصر الاقطاع وعلاقاته الاجتماعية، وخرج على حدود الدولة الوطنية/ القومية، ويريد العودة الى عصر الدولة الامبراطورية/ الدينية. وخرج على العصر الذي يعتبر الشعب هو مصدر السلطات، ويريد العودة الى عصر الحاكم بأمر الله، ونائب الله على الارض الذي تعتبر طاعته من طاعة الله سبحانه.
انه نظام يعيش خارج العصر والاسرة الدولية، ولكي يستطيع البقاء يحاول نسف كل الجسور مع الشعوب الاخرى، واغلاق كل قنوات التفاعل الانساني، ومن اجل ذلك يستدعي كل العصبيات الجاهلية وينفخ النار في الرماد، ويزرع الرهاب في عقول شعبه، وينمي فيه الاحساس بالتفوق والنقاء، ويعزز فيه نفسية (الفيتو)، ويكفر كل الاخرين، ويسفه كل العقائد، ويتجاوز كل المحرمات المعاصرة، ولا يعترف بأية حدود، ويتمسك بنهج التوسع، والتدخل في شؤون الآخرين، وتصدير ألغامه الطائفية في كل الاتجاهات، واصدار صكوك الغفران وفتاوى التكفير ذات اليمين وذات اليسار في عربدة عابثة مدمرة.
مثل هذا النظام اصبح خطراً على شعبه وعلى الشعوب المحيطة به، وهو اذ يطالب باسقاط هذا النظام ويعمل للاطاحة بذاك، ممن يطالبون بالتعايش السلمي وحسن الجوار، وعدم التدخل في الشوؤن الداخلية، واحترام السيادة الوطنية ووحدة الاراضي الاقليمية لانفسهم وللآخرين، وبالتعاون الاقليمي البناء، والالتزام بالقوانين والاعراف الدولية، وحل المشاكل بالطرق السلمية.
ان نظام طهران يطالب باسقاط هؤلاء، انما يحاول اسقاطه هو نفسه الى مطلب داخلي واقليمي ودولي يجنب شعب ايران ما دفعه الشعب الالماني من ثمن باهظ جداً لحماقات هتلر واوهامه واحقاده، ويجنب المنطقة والعالم ان يدفعوا ما دفعته اوروبا والعالم ثمناً للاستهتار والتراخي في كبح جماح هتلر. وامامنا ثلاث ضمانات ضد الكارثة: الاولى وقفة اجماع عملية حازمة من الاسرة الدولية والرأي العام العالمي، والثانية وقفة عملية موحدة حازمة من الاسرة العربيةوالاسلامية، والثالثة وهي ضمانتنا الاهم، وقفة تاريخية حازمة وحاسمة من الشعب الايراني بقومياته المختلفة، ضد المتحكمين بمصيره، والمستهترين بدمائه ودمائنا، والعابثين بكل قيم السلام، والمخربين لكل ايجابيات التراث المشترك والتفاعل الحضاري والانساني بيننا على مدى آلاف من السنين، ضد من سرقوا ثورته، واجهضوا الامال التي احيتها في شعوب المنطقة للتخلص من نير الاجنبي وهيمنته ونهبه، من اجل الامن والسلام والتقدم الاقليمي، على قاعدة التحرر الوطني. هذا النظام الذي قبر آمالنا واحلامنا المشتركة وهي في المهد هو الذي يجب ان يسقط، ومنطق العصر هو ان يسقط حتماً او يتكيف مع حقائق العصر، بينما العالم يدق ابواب العقد الثالث عن قريب من قرننا الحالي.