23 ديسمبر، 2024 5:47 ص

عناصر الذهن البشري عند جون لوك

عناصر الذهن البشري عند جون لوك

” إن المشكلة الكبرى التي أقلقت البشر في جميع العصور وجرت عليهم معظم الويلات… لم تكن مشكلة قيام السلطة على الأرض أو مشكلة مصدرها بل مشكلة تعيين صاحب الحق بها”1[1]
ولد جون لوك ( 1632- 1704) قرب بروستل من أنجلترا زمن الثورة الدامية وفي نفس السنة التي ولد فيها فيلسوف أمستردام سبينوزا ودرس في أكسفورد التي كان يسيطر عليها الأرسطيون بينما كانت كامبردج تحت هيمنة الأفلاطونيين. علاوة على ذلك عايش لوك الحرب الأهلية الأنجليزية التي دارت رحاها بين الأرستقراطية المَلَكية والبرجوازية البرلمانية وساهمت في تغيير المشهد وميلاد فكر جديد.
لقد حاول منذ البداية نشر أفكار المدنية والسلم والتسامح والتسوية والتضحية في سبيل الصالح العام وساند نظرية العقد الاجتماعي وسيادة الشعب والحكومة النيابية وتقلد العديد من المناصب بعد وصول مقربين منه إلى الحكم وحصل على ثروة كبيرة من تجارة العبيد وهي من الرذائل التي ارتكبها منظر الحقوق  والحريات التي وضع هذه مبادئها في جملة من المؤلفات غلى غرار “رسالة في التسامح” و”رسالة في الحكم المدني”. لقد تقابل مع مالبرنش وبل وسبينوزا ولايبنتز ولكنه تأثر بفرنسيس بيكون وطوماس هوبز ورونيه ديكارت. لقد ساعده السيد شافتسبري على الالتحاق بالتدريس في جامعة أوكسفورد بالرغم تيار السياسة قد قام بجرفه بعيدا عن مقاعد البحث الجامعي.
لقد تجلت فلسفة لوك التجريبية الحسية بعد بلوغه سن السادسة وخمسون حينما كتب “رسالة في الذهن البشري” وبيّن  فيه رفضه التام نظرية الأفكار الفطرية التي تعتقد في امتلاك العقل البشري لمجموعة من الأفكار الفطرية يرثها منذ الولادة ولا يكتسبها عن التجارب التي يمر بها في الحياة ولا يتعلمها في البحث والجدل ، وفي مقابل ذلك أقر بأن العقل يولد صفحة بيضاء ويشبهه باللوح النظيف الخالي من كل شيء وصرح في هذا السياق بأنه ” ليس ثمة شيء موجود في العقل إلا كان موجودا أولا في الحواس”.
لقد جمع لوك بين المحافظة على الإيمان ضد السلطة الكنسية التي تعصف بالدين واعتمد العقل حكما في شؤون الدنيا وفي تنظيم المعطيات الوافدة من الخبرة الحسية التي جعلها عمادا رئيسيا لفلسفته التجريبية. بناء على ذلك رسم لوك لسلطة العقل حدودا مزدوجة : الأولى من جهة التجربة والثانية من جهة الإيمان.
اذ يصرح في هذا الإطار: ” ليست الأفكار الفطرية مطبوعة على العقل بطبيعتها، لأنها ليست معرفة بالنسبة إلى الأطفال والسذج وغيرهم”. لقد وضع لوك الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسي للمعرفة والضابط الأول للعقل والمعيار الفلسفي للتثبت من حقيقة الروح والعالم والله ولقد ترتب عن ذلك دخول لوك في نقاش حول قضايا الجوهر والسببية والأخلاق والسياسة وبحث في إطار نظرية المعرفة عن علاقة النفس بالجسم وتناول عناصر الفهم الإنساني بشكل مباشر وركز على ما يوجد في الذهن من إحساسات وتصورات وادراكات ومقولات وأفكار وتساءل عن كيفية حدوث المعرفة  فيه دون الالتفات إلى الطبيعة الفزيولوجية لعضوية للذهن من جهة تكوينها الداخلي.
لقد أرجع لوك الأفكار في منطلقها إلى الحواس باعتبارها المصدر الأول لتلقي الانطباعات والإدراكات.
لقد  كشف لوك في “رسالة في العقل” عن عجز الذهن البشري عن التعرف على حقيقة العالم المادي بشكل كلي وعن معالجة الأمور التي تتجاوز قدراته وحدوده وبالتالي أنكر بشكل تام وجود أفكار فطرية قبل التجربة وطرح السؤال التالي: متى يبدأ المرء في التفكير؟ وكانت الإجابة المفضلة لديه: يبدأ المرء في التفكير عندما يبدأ في الإحساس. ولا يمكن بالتالي اعتبار لوك دون النظر إليه على أنه العدو الأول لنظرية الأفكار الفطرية والأب المؤسس للتجريبية ولا يمكن فهم نظريته السياسية دون التطرق إلى نظريته حول نسبية المعرفة ودليله هو عدم وجود أي تمثل للواقع يكون مطلقا بالنظر إلى أن الكلمات لا تشير إلا إلى أفكار وليس إلى أشياء.
 جملة القول أن المعرفة الواضحة هى المعرفة المرتبطة بقدرات الفهم الإنسانى المرتبطة بالإدراك الحسى، أما المعرفة الميتافيزيقية فهى في نظره غامضة ومشوشة دائماً لأنها لا تعتمد على أي مصدر تجريبى.  في هذا الصدد يعلن لوك ما يلي: “في البدء كانت التجربة” وبذلك استنتج أن  التفكير لا يتم إلا بعد تفعيل الأحاسيس وإجراء التجارب. غير أن التجربة عند النزعة التجريبية لا تفيد دخول مخابر البحث experiment عند الألمان وإنما المعيش اليومي للكائنات الحسية التي هي نحن Erfahrung .
كما يضيف في نفس الاتجاه :” لا يوجد أمر في الذهن لم يكن موجودا في البداية في الحواس”.
 لقد ترتب عن ترابط الأفكار بالإحساسات القول بأن فكرة اللانهائي لا تطابق أي شيء ماديا ، كما أن التجربة ليست  فحسب مصدرا موضوعيا للمعارف التي تتعلق بظواهر الطبيعة وحقائق العالم بل تصلح أيضا بوصفها المعيار الذي يعتمد عليه الفكر الفلسفي للتمييز بين الأفكار الحقيقية والأفكار الزائفة.
لقد طرح أحدهم على الجماعة العلمية المشكل التالي: لو عالج أحد الذين لا يبصرون منذ الولادة مرضه بإجراء عملية جراحية وأمكن له للمرة الأولى رؤية جسم مثلث الأضلاع و جسم دائري كان يميز بينهما بواسطة اللمس ، فهل يمكن لهذا الشخص أن يميز بين الجسمين بواسطة النظر فحسب؟ ألا يطرح هذا المشكل مسألة الحس المشترك الذي يعود إلى أرسطو؟ هل الحواس مرتبطة ببعضها البعض أم منفصلة؟
إذا كان العقلانيون يرون بإمكانية الاسترسال بين الحواس فإن التجريبيين يرفضون ذلك ويرون بأن حاسة اللمس منقطعة عن حاسة النظر وبالتالي يجب للشخص المذكور أن يتعود التمييز بين الأجسام بالنظر بالرغم من خبرته في التمييز بينها بواسطة اللمس ولكن هذه الخبرة لا تفيده في شيء عند التمييز بالنظر.
غير أن حالة أخرى قد ظهرت سنة 1730 وتمكنت من التمييز بين الجسمين عن طريق اللمس وليس من خلال النظر، ولقد ترتب عن ذلك القول بأن التجربة لا تكون حاسمة سوى بصورة نادرة وأن الفلاسفة يتشبثون دائما بوجاهة نظرياتهم وأنه يعسر عليهم الاحتكام إلى معيار التجربة والتثبت من صدق أفكارهم.
كما يوجه لوك ضد النظرية الفطرية التي يدافع عليها العقلانيون الاعتراض التالي: لو كانت الأفكار فطرية فإنها يجب أن تكون كونية وحاضرة عند كل البشر بشكل دائم وفي كل زمان ومكان كما يرى العقلانيون.  عند لوك الأفكار تختلف وتتنوع  الأفكار حسب اختلاف وتنوع الأفراد وتعدد الأماكن والأزمنة وتتنوع عند الفرد نفسه على مجرى حياته ذاتها وعند تغيير أماكن تواجده ومعايشته لوضعيات زمنية متعددة.
لقد عثر التجريبيون على الحجج الملائمة والمناسبة لأطروحاتهم من جهة التاريخ والجغرافيا في حين أن التقليد الفلسفي عند العقلانيين وعند المثاليين ترك هذه الحجج جانبا واهتم بالحجج والبراهين المنطقية.
لقد ترتب عن ذلك التمييز الشهير الذي أجراه لوك بين الأفكار البسيطة والأفكار المركبة. ولقد أكد على أن الأفكار البسيطة هي تمثلات فردية لا تقبل القسمة وتتكون من ذرّات من التمثلات وتنقسم إلى أنواع ثلاث:
–         الأفكار البسيطة التي تنتج عن الإحساس مثل الحار والبارد والمالح والحلو والامتداد والشكل والحركة التي تأتي مباشرة من تجربتنا الحسية.
–         الأفكار البسيطة التي تنتج عن التفكير وتأتي من الملكات الباطنية على غرار الذاكرة والانتباه واليقظة والإرادة.
–         الأفكار البسيطة التي تنتج في ذات الوقت عن الإحساس وعن التفكير مثل أفكار الوجود والديمومة والعدد وهي مطلوبة من طرف التجربة الحسية للأشياء الخارجية وأيضا من أجل تشغيل الملكات الباطنية.
ربما وجود الأفكار التي تنبع من التفكير قد تجنب النزعة التجريبية عند لوك من النقد الذي وجه لها بعنوان اختزال الوجود الإنساني إلى مجرد غرفة تسجيل للمعلومات وسند انفعالي تأثري للمعطيات.
أما الأفكار المركبة التي تتكون تجميع وترابط للأفكار البسيطة ولقد ميز لوك بين عدة أنواع من الأفكار التركيبية يمكن ذكر أهمها:
–         أفكار حول الجواهر وهي وقائع يمكنها أن تستمر بذاتها.
–         أفكار حول الأحوال Modes وهي وقائع لا يمكنها أن تستمر بذاتها بل تحتاج دائما إلى غيرها.
هكذا يقع لوك في تثبيت الصلة الدائرية بين الكلمات والأفكار بحيث لا وجود لأفكار بلا كلمات ولا وجود لكلمات بلا أفكار. وهذا هو المعنى المزدوج لللّوغوس عند الإغريق الذي يعني الكلام والفكر في آن واحد.
بيد أن التجريبيين يعطون أهمية كبيرة للكلام بوصفه الشرط المتعين والفعلي لتحصيل المعرفة والفكر. اللافت للنظر أن الطفل قد ظهر في النهاية في على المشهد الفلسفي مع جان لوك ويعود ذلك إلى الأهمية الكبيرة التي يمنحها التجريبيون إلى التربية بالنظر إلى أن العقل لدى الطفل صفحة بيضاء ويعتمد على التجربة في إدراكه للعالم وبما أن كل الأفكار مكتسبة . لهذا الاعتبار يميز لوك بين التعليم l’instruction الذي يتعلق باكتساب المعارف الموضوعية والتربية الحقيقية التي تراهن على تنمية شخصية الطفل.
المصدر :
1-جون لوك، في الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، اليونيسكو، بيروت، 1959،ص87.
كاتب فلسفي