23 ديسمبر، 2024 10:34 ص

أنا وشوقي العياش (يسمونه عمّو شوقي) التقينا في باريس وأصبح الصديق الأحب الى قلبي ، وأتحول أنا الى نديمه الأول الذي يحن له من بين كل البشر كما يردد ..

تعرفت على عمّو شوقي في مقهى ” المجلس ” ويقع في شارع فرعي أنيق يدعى “واشنطن” المتفرع من جادة الشانزليزيه الساحرة الفخمة ، مكان نزهة الارستقراطية الفرنسية وأثرياء العرب رغم انتشار الكثرة من المتسولين، والمحتالين واللصوص من عرب وفتيات وصبية قدموا من أوروبا الشرقية ،ويسرقون الكحلة من العين، وياخذوك للبحر ويرجعونك عريان وعطشان …

كان ذلك قبل أكثر من عامين وكان العم شوقي هو المبادر، فهو معجب بما أكتب وماأتحدث عنه في قناة العربية . ويتفاخر بي أمامي وخلفي، وطالما ازدحم ” المجلس ” بمن يدعوهم شوقي للتعرف علي، مع أنني صغير جداً أمامه وهو الذي عمل سنوات طويلة بالسياسة والنشر منذ نعومة أظفاره، وكان مناضلاً في صفوف الحزب الشيوعي ، وقبل كل شيء فهو كاتب مبدع عاشق للانسان وللانسانية،ونشرت مقالاته وتأملاته الأدبية في جريدة ” طريق الشعب ” وصحف ومجلات يسارية أخرى في العراق وخارجه.

هو شيوعي ولد في الكرخ ببغداد وأصوله من الفلوجة، وأنا إسلامي من حزب الدعوة من ولدت في البصرة وخضت فيها جهاداً ضد البعث ونظامه البائد وهاجرت منها الى الكويت فالجمهورية الاسلامية الايرانية بينما هو هاجر الى لايبزغ بألمانيا الشرقية الشيوعية ودرس هندسة الميكانيك وتخرج عام 1979نفس العام الذي انتصرت فيه الثورة الإسلامية في إيران واعتقلت فيه متنقلاً بين معتقلات النجف فالديوانية والناصرية والبصرة.

جده شيخ وشاعر ووالده تزوج بنت الشاعر لسان الذهب (من الرمادي)،وخاض الكثير من فصول نضاله متضامناً مع الأكراد، وكان بعض أفراد أسرته ” من مقاتلي ” البيشمركه ” في كوردستان.
باختصار فان عمّو شوقي وأنا لوحة فنية رائعة فيها ألوان الطيف لهذا الوطن المستباح، تُسر الناظرين.

هناك الكثير مما لايمكن أن يجمعنا أنا وشوقي العياش إذا أردنا أن نخوض في تفاصيل حياتنا السياسية والفكرية كل على انفراد. وإذا فعلنا ذلك ، فإننا سنجد نفسينا مختلفَين تماماً في خطين متوازيين ، لن يلتقيا أبداً، فالشيطان يكمن في التفاصيل..
أنا وشوقي العياش قهرنا هذا الشيطان ، لأن ما يجمعنا أكبر بكثير ممّا قد يفرقنا، فهو مؤمن بقيم الإنسانية العليا مثلي تماماً ويرى أن الإنسان قيمة هائلة يجب العمل من أجل إسعاده دون النظر الى إنتمائه الذي يحصل في الكثير من الأحيان، قهرياً ، مثلي تماماً ف(كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ.).

شوقي العياش الكاتب والمناضل الشيوعي يعتقد بثورة الحسين عليه السلام وأنها أرست قاعدة النضال من أجل التحرر، وأن وفاء أخيه العباس وأصحابه المخلصين نموذج لو تكرر لتغير حال الفقراء والمحرومين في العالم، ويرى في ثورية أبي ذر الغفاري مثلاً يجب عَلى الإنسان العراقي الاقتداء به متخلياً عن قيوده الطائفية وعن العمل السياسي بنظام الكيلو، وأنا مثله تماما..

أنا أصلي وأهتم بصلاتي و هو شيوعي مرهف الحس ينقلني حين أقرأ له، الى فضاءات رفيعة من الإنسانية السامقة. ويسافر بي في ذاكرته المختزنة ببقايا معتقة جداً من شخوص وأماكن وحوارات حفظتها كتب لمؤلفين كبار من كل حقب التأريخ ، وشمسه دائماً عمودية لكن ظلاً يتبعه كما ينقل عن المنفي في باريس أيضاً محمد سعيد الصكار.
وفي كل مرة أنهض فيها للذهاب الى الفندق لأصلي أراه يعترضني مخرجاً سجادة صلاة مخبأة تحت طاولة الحساب، ويفترش لي طريقا الى القبلة في الساحة المفتوحة خارج المقهى ، وهي ممر خلفي يستخدمه البعض للخروج الى الشارع، ويقطع الطريق على المارة كي يضمن لي جواً خاصاً لي لأصلي ويسألني الدعا بشوق ولهفة …

إذاً فان شوقي العياش هو نموذج راقٍ للتعايش بين المتخالفين فكرياً وسياسياً بما يعني أننا كعراقيين قادرون على أن العطاء وبناء ما دمرته الأنظمة القمعية التي تستهلك البشر لأغراضها الدنيئة. وشوقي العياش يتحرك في عالم التواصل الاجتماعي ويحظنا على نبذ الطائفية ولغة المكونات ، ولسان حاله يردد ما قاله الامام علي عليه السلام :
” خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ”.
كتب شوقي العياش في ” موت في الغربة ” عام 1992 متحرقاً شوقاً الى بغداد :
-( وانا أحاول الزحف بين كثبان القبور ،
كانت عيناها تقتربان مني ، ثم تغيبان في الظلمة فأتبعهما) .
وأنا أقول :
فوك ارفع ايدك سلم على اليهواك فوك ارفع ايدك
كلبي يريدك غيرك ولاحبيت كلبي يريدك
ياعراق!
والعاقل يفهم.
مسمار:
علي عليه السلام ” مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، وَلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ “.