في خضم التوترات الإقليمية المتصاعدة، تواجه إيران موجة جديدة من الضغوط ليس بالضرورة أن تكون حركتها عبر المواجهة العلنية، بل تسير في مسارات دقيقة وصامتة. العملية التي طالت ميناء رجائي في بندر عباس يوم أمس السبت كشفت عن عملية معقدة تحمل بصمات “حرب الظل” أكثر من كونها مجرد حادث عابر.
وتطرح العديد من الأسئلة حول الأطراف المستفيدة والرسائل العميقة المرسلة عبر هذا الهجوم.
ما حدث في بندر عباس، رغم محاولات النظام الإيراني تقديمه كحادث عرضي، يحمل مؤشرات قوية على أنه جزءٌ من اشتباك خفي يُعاد من خلاله هندسة المشهد الداخلي الإيراني. فالتآكل الذي ينهش الجسد السياسي والأمني للنظام لم يعد عشوائياً أو ناتجاً عن أزمات معيشية فقط، بل بات يُدار ضمن مشروع احتواء مُحكم ومخطط له، يستهدف ضرب مراكز القوة وإعادة ترتيب الساحة الإيرانية من الداخل.
هل إسرائيل في قلب المشهد..؟
المعطيات تشير إلى أن المستفيد الأول من استهداف ميناء رجائي هيإسرائيل، التي لطالما دأبت على الإيحاء – تصريحاً أو تلميحاً – بأنها تملك اليد الطولى في اختراق العمق الإيراني. المفارقة أن عملية الاستهداف تزامنت مع انعقاد الجولة الثالثة من المحادثات بين واشنطن وطهران في مسقط، وهو تزامن يصعب تصنيفه ضمن الصدفة المحضة.
وإذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ما نقلته صحيفة “فاينانشال تايمز“ نقلا عن معلومات مخابرات من مسؤولين أمنيين في بلدين غربيين في وقت سابق، أن سفينتي شحن إيرانيتين تحملان مكوناً لوقود الصواريخ ستبحران من الصين إلى إيران في الأسابيع القليلة المقبلة.
وذكرت الصحيفة أنه من المتوقع أن تحمل السفينتان، جولبون وجيران، اللتان ترفعان العلم الإيراني أكثر من ألف طن من مادة بيركلورات الصوديوم، التي تستخدم في صنع بيركلورات الأمونيوم، المكون الرئيسي للوقود الصلب للصواريخ، وأشارات إلى أن الشحنة ستذهب إلى الحرس الثوري الإيران الذي يقع مقره بالقرب من الميناء.
إذن التوقيت الحساس للعملية، وسط محاولات أميركية لتحريك عجلة التفاوض، يوحي بأن جهة ما أرادت إرسال رسالة قوية لكل الأطراف مفادها أن أي تسوية مع طهران لن تكون سهلة أو محصنة من الاستهداف.
إسرائيل، وفقاً لعقيدتها الأمنية، تسعى دائماً إلى ضرب القدرات الإيرانية في مراحل مبكرة، لمنع طهران من تحويل مكاسبها الدبلوماسية أو الاقتصادية إلى أوراق قوة ميدانية. لذلك، تبقى هي المستفيد الأول من تنفيذ هذا النوع من العمليات، خاصة مع ما عُرف عن استخباراتها من براعة في إدارة العمليات السرية دون ترك أثر واضح.
بطء إيراني وعجز لافت..!
اللافت في التعامل الإيراني مع عملية ميناء رجائي كان البطء والارتباك الذي أظهرته الأجهزة المختصة، كما أن الرواية الرسمية تأخرت، وتناقضت تصريحاتها فيما بعد، وغاب التحرك المنظم في احتواء آثار الضربة أو تقديم تفسيرات مقنعة للرأي العام الداخلي والدولي.
هذا البطء يكشف عن هشاشة كبيرة في منظومة الردع والسيطرة الإيرانية، ويفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية:
كيف يمكن لدولة أظهرت هذا القدر من العجز في التعامل مع عملية بحجم استهداف ميناء أن تتعامل مع هجوم عسكري واسع أو قصف غير مسبوق..!؟
ما حدث في بندر عباس يقدم دليلاً إضافياً على أن إيران، رغم ما تروجه عن قوتها، تظهر كأنها مجرد “نمر من ورق”، قابلة للانهيار السريع إذا ما تعرضت لضربات مدروسة ومركزة.
وهذا يعيد طرح سؤال آخر أكثر عمقاً: كيف تمكنت طهران، وهي بهذه الهشاشة، من فرض نفوذها على أربع عواصم عربية خلال السنوات الماضية؟
قوة إيران الحقيقية.. فراغ الخصوم لا قوة الذات
الإجابة تكمن في أن نجاح إيران الإقليمي لم يكن بالضرورة نتيجة لقوتها الذاتية بقدر ما كان انعكاساً لفراغ عربي وانهيار المنظومات الوطنية في دول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ففي تلك العواصم، كانت بنية الدولة قد تآكلت أو تفككت، ما أتاح لإيران أن تتغلغل عبر وكلاء محليين موالين لها، وليس عبر تفوق ميداني مباشر. بالتالي، فإن تفكك الغطاء العربي وليس تفوق القوة الإيرانية، هو من سمح لها بالتمدد.
أما حين تواجه إيران تحدياً مباشراً يطال أرضها ومنشآتها الحيوية، كما حدث في بندر عباس، فإن صورتها الحقيقية كدولة مرهقة داخلياً وضعيفة أمنياً تبرز إلى السطح، لتكشف أن مشروعها التوسعي يعتمد أساساً على استغلال نقاط الضعف الإقليمي، لا على قاعدة صلبة من القوة الذاتية.
نهاية مفتوحة لمشهد معقد
استمرار الضربات النوعية داخل العمق الإيراني، سواء عبر عمليات سيبرانية أو تفجيرات غامضة، ينبئ بأن مشروع الاحتواء الخارجي لإيران دخل مرحلة جديدة، أقل صخباً وأكثر فاعلية.
ومع تسارع الأحداث، يبدو أن النظام الإيراني، الذي كان يراهن على السيطرة الحديدية، يواجه تحدياً وجودياً لا يمكن معالجته بالأساليب التقليدية من قمع أو مهادنة.
المعركة الآن تجري تحت السطح، بوسائل لا تترك أثراً ولا توقيعاً، في حرب أعصاب طويلة النفس قد تعيد صياغة توازنات الإقليم من جذورها.
بالمحصلة، نحن أمام مشروع احتواء مدروس، يتقدم بخطى ثابتة، وقد يستهدف رموز السلطة العليا في النظام، أو كما يمكن تسميته بـ”قتل الكبير”، لإعادة صياغة المشهد الإيراني بطريقة قد تغير معادلات القوة في الإقليم بأسره، دون الحاجة إلى أزيز السلاح أو إعلان الحروب التقليدية.