23 ديسمبر، 2024 6:17 ص

“عملية عفرين”… ما لتركيا… وما عليها

“عملية عفرين”… ما لتركيا… وما عليها

مقدمة
أثارت العملية العسكرية التركية لتحقيق السيطرة على أجزاء من منطقة “عفرين” -في أقصى شمال-غربيّ محافظة “حلب” السورية- نقاشاً واسعاً حول أحقّية “آنقرة” في الإقدام عليها من عدمها…
فما واقع الأمور المطروحة في هذا الشأن؟؟؟
نظرة “آنقرة” نحو “عفرين”
ترى “تركيا” أن أرض “عفرين” في أقصى شماليّ محافظة “حلب”، بأهليها -ذات الأغلبية الكردية- وقُراها المتتاخمة مع الولايات التركية الثلاث “كيليس، غازي عَنتاب، هاتاي”، وقد شكّلت في ربوعها “وحدات حماية الشعب الكردية (و.ح.ش.ك) المُختصَرة تركياً بـ(Y.P.G)” -بدعم أمريكي مؤخراً- فصائل مسلّحة عقيدتها وأساسها “حزب العمال الكردستاني-التركي (P.K.K)” -والموصوف بالإرهاب تركيّاً وعالمياً- وإمتد نفوذها في عموم المنطقة لغاية بلدة “مَنبج” القريبة من “نهر الفرات” لتتلاصق -نسبياً- مع البقاع التي تمركزت فيها “قوات سوريا الديمقراطية (ق.س.د)” التي أسّسها الأمريكيون تحت ذريعة محاربة (د.ا.ع.ش) ودعموها بالمال والسلاح الثقيل والمعدات والتدريب والمشورة وبقواتهم الميدانية ودعموها بالطائرات.
ولما لم يَخفِ قادة “و.ح.ش.ك” طموحاتهم -أسوة بـP.K.K- في إنبثاق كيان كردي بمثابة حكم ذاتي شبيه لما إستحصل عليه أكراد العراق منذ السبعينيات، والذي قد يتطوّر مستقبلاً لتغدو دولة كردية، فأن “آنقرة” ترى أن مثل هذه الأحلام القومية قد تؤجّج مشاعر أكراد “تركيا” عبر الحدود، لذا ينبغي عليها وأدها أو تأخيرها لأقصى وقت ممكن ريثما تُحَلّ المشكلات القائمة في “سوريا” منذ عام (2011).
عملية “درع الفرات”
ولو إستذكرنا العملية المسمّاة “درع الفرات” نراها قد باشرت بها وحدات من “الجيش السوري الحر” يوم (24/8/2016) بدعم ميدانيّ مباشر من وحدات الجيش التركي، مُشتمِلة بلدات رئيسة “جرابلس، الراعي، الباب”، وطالت (7) أشهر قبل الإعلان عن إنتهائها يوم (29/3/2017) بالسيطرة على (2250) كلم مربع، حيث تحقق فرض الأمن على بُعد حوالي (100) كلم من الحدود التركية بين “جرابلس-الراعي”، على أمل موعود بأن تُجبِر “واشنطن” القوات الكردية -المؤتمَرة بأوامرها- بترك بلدة “مًنبِج” والبقاع الواقعة غربيّ نهر الفرات إلى شرقيّه، ولكنه لم يتحقق.
وجاء دور “عفرين”
لم تعلن “تركيا” عزمها للإقدام على عملية نحو “عفرين” إلاّ بعد إعلان “واشنطن” مباشرتها بتأسيس قوات ذات غالبية كردية بواقع (30-35) ألف مسلّح بحجة الحفاظ على البقاع التي أُستُعيدَت من أيدي (د.ا.ع.ش)، فرأت “آنقرة” أن هذا التشكيل العسكري الضخم الذي يعادل -وفقاً للمصطلحات العسكرية- ملاك “فيلق (CORPS)” أو “جيش ميداني (FIELD ARMY)”، قد يشكّل أنتشاره على حدودها مع “سوريا” مخاطر على أرضها، ولذلك خططت لدرئه قدر الإمكان بعملية تبدو سريعة.
ولذلك يُنظَر لعملية “عفرين” بمثابة إمتداد أو إستكمال لـ”درع الفرات”، مع تفوّق “عفرين” على قريناتها السابقات لأسباب آنفنا ذكرها، مع إحتساب أن تكون أسرع ولا تستغرق أشهراً، رغم المخاطر التي يُحتَمَل أن تصيب الأهلين وسط مئات القرى التي تكتظ بها تلك الربوع الجبلية والهضابية المكتظة بالغابات.
رؤية “تركيا”… ولماذا تُلام ؟؟
لستُ بصدد تفصيل سير هذه العملية المُطلَق عليها تسمية “غصن الزيتون”، ولكن قصفاً مدفعياً وجوياً تركياً طال عشرات الأهداف لأيام عديدة سبق التوغّل بالدبابات والمشاة المحمول بناقلات الأشخاص المدرعة وهي تسند تشكيلات من “الجيش السوري الحر” فجر (21/1/2018) من (خمسة) محاور، قاطعة حوالي (خمسة) كلم باليوم الأول، زادت إلى (سبعة) في يومها الثاني قبل أن يتباطأ التقدم جراء المقاومات التي أبداها مسلّحو (و.ح.ش.ك) وسوء الأحوال الجوية والوحول التي غطّت ميدان المعارك.
فالأهم من المعركة -التي ربما ستستغرق أشهراً من الشدّ والجذب- أن نأتي إلى أسباب توجيه الملامة نحو “تركيا” ورؤية “آنقرة” حيالها:-
الدولة السورية وصفت العملية بمثابة ((عدوان وحشي)) على أرضها وخرقاً للمواثيق الدولية… بينما تردّ عليها “تركيا” بأن لها الحق في تحقيق أمن مواطنيها المتاخمين للحدود، ما دامت “عفرين” وعموم شماليّ البلاد خارجة عن سلطة “دمشق” منذ (2012) من دون أن تستطيع -رغم الدعم الروسي والإيراني المزدوج- تطهيرها من المسلّحين الخارجين على القانون كي يستتبّ الأمن هناك وتُبعَد الأخطار عن الحدود التركية.
الولايات المتحدة رأت أن العملية ستشتت جهود “التحالف الدولي” المنصبة لمحاربة (د.ا.ع.ش)… فردت “آنقرة” أن هذا التنظيم قد تلاشى وكُسِرَت شوكته، وخطورة الإرهابيين المتمركزين بمقربة أمتار على طول حدودها يقلقون مواطنيها وأمنَها القومي والوطني أعظم بكثير من ذلك التنظيم، ولذلك يحق لها أن تسرع في إبعادهم قدر المستطاع ما دام الأمريكيون قد عَدّوا “د.ا.ع.ش” وأوضاع الشرق الأوسط خطراً على أمنهم القومي رغم (عشرة آلاف) كلم تفصلهم عن سواحلهم المطلّة على المحيط الأطلسي.
وقد فاجأ وزير الخارجية الأمريكية “ريكس تيلرسون” نظيره التركي “مولود جاووش أغلو” بعرض مُغرٍ بتحقيق منطقة آمنة قبالة الحدود بعمق (30) كلم، والذي عدّته “آنقرة” ((مُريباً)) كون غايتها الأصل في “عفرين” لا تتعدى ذلك العمق!!! فلماذا تتكرم “واشنطن” بهذا العرض بعد المباشرة بالعملية العسكرية؟؟؟
ورغم كون روسيا الإتحادية أقوى اللاعبين جهاراً على الأرض السورية، وهي التي تدخلت بعنف حفاظاً على قاعدتيها الإستراتيجيتين في “حميميم وطرطوس” والنظام القائم، فقد نأت بنفسها وأهدت بعض الحق لـ”تركيا” وسحبت المئات من مراقبيها من “عفرين”، وإعتبرت تصرفات “واشنطن” المزدوجة نحو “آنقرة” والفصائل الكردية سبباً في تفاقم الأمور، ما عُدَّ بمثابة ((ضوء أخضر)) لتتمتع “آنقرة” بكامل حريتها في هذه العملية.
وما عدا “بريطانيا” المُجاهرة بتأييدها لـ”تركيا”، فقد إنفردت فرنسا بموقف غاضب -بعد أن عُرِفَت طيلة عقود ومنذ الستينيات بدعمها للمطالب الكردية- ودعت “مجلس الأمن الدولي” إلى إجتماع طارئ، ولكنها لم تفلح ليس بعرض مشروع قرار، بل حتى في إصدار بيان صحافي أزاء “عفرين”، ولم ينطق أحد أعضاء المجلس ولو بتصريح.
أما البعض من ذوي العلاقة بالشأن السوري -بمن فيهم “إيران”- وعدد من المهتمين بأوضاعها، فإنها أبدت قلقها وطالبت “تركيا” بالإسراع في إنهاء القتال والحفاظ على أرواح المدنيين… فردّت “آنقرة” بأن ((لا داعي للقلق والأرَق)) وستكون أحرص منهم على الأهلين، وستحقق منطقة آمنة بعمق (30) كلم وبأسرع وقت ممكن قبل تسليمها لأصحابها الحقيقيين كي لا تُعَدّ قوة إحتلال مثلما حال البعض.
محاولات “تركيا” للحفاظ على أرواح المدنيين
من المؤكد أن لا أكون على علم بالخطوات التركية لتجنيب المدنيّين عمليات القصف عليهم ضمن خطة إقتحام قواتها لمناطق “عفرين”، ولكن تصريحات القادة السياسين والعسكريين توحي بذلك كثيراً.
أن من أهمّ (التَحدِيدات) التي يجب أن يُؤخَذ بها عند وضع ضباط الركن للخطة التفصيلية لأية عملية يخوضها أي جيش يلتزِم بالتوجيهات -والجيش التركي من بينها على ما أعتقد، كونه مؤسسة منضبطة بمهنيّـة مشهودة- هو الحفاظ على أرواح المدنيين وتجنيبهم وممتلكاتهم الدمار والخراب، وذلك بتحديد الأهداف الميدانية بدقة متناهية لا تتقبل إحتمالات الخطأ قدر الإمكان.
وقد يتحقق ذلك بالإستخدام الأدنى للأسلحة المسمّاة (أسلحة منطقة) كقنابل وصواريخ الإسقاط الحر من الطائرات والهليكوبترات وقنابل مدافع الميدان وصواريخ القاذفات الأنبوبية (الراجمات) بأنواعها، كونها غير دقيقة بالمرة حتى لو كانت طوائفها تاقنين لأسلحتهم بالدقة المتناهية.
ولذلك ينبغي -في مثل هذه المواقف- الإعتماد على ما يسمّى بـ”الأسلحة النقطوية ذات الدقة” كمدافع الدبابات والمدرعات وعجلات القتال المدرعة ورشاشاتها الثقيلة والمتوسطة، والقنابل الذكية (SMART BOMBS) المحمّلة بالطائرات والمروحيات، والقذائف المسيّرة، والقاذقات (RBG) المعروفة.
وللتصاوير الجوية وقراءها بدقة قبل تثبيت الأهداف المطلوبة على الخرائط أهمية بالغة قبل تنفيذ الضربات الجوية والمدفعية، ومن دونه يكون القصف عشوائياً، وقد حققت المعدات المتاحة في الأسلحة الثقيلة الحديثة دقة عالية.
والـمُسَلَّم به أن تعتمد “تركيا” -وهي صاحبة ثاني أضخم جيش وسط حلف (NATO) عدداً وعُدّةً بعد الجيش الأمريكي- على طائرات الإستطلاع الإختصاصية، بدءاً من (فانتوم-RF-4) و(تايكر-RF-5)، ونزولاً إلى الطائرات المسيّرة الأحدث بدون طيار (DRONES) بأنواعها.
ومن الطبيعي -وبالأخص في الحروب الداخلية أو الإشتباكات الحدودية- أن يكون هناك “طابور خامس” يعاون هذا الطرف أو ذاك ويزوده بمعلومات ميدانية ذات اهمية قصوى، ولربما يكون هؤلاء “الوكلاء/العملاء” ذوي وجهَين مقابل المال، وقد تعاظمت أدوارهم لدى تكليفهم بوضع أقراص ليزية في مواقع ذات أهمية قصوى كي تتوجه إليها القذائف المحمولة على الليزر بدقة لا تقبل الخطأ عادةً.
ورغم متابعاتي الحثيثة فإني لم أسمع إقتراف القوات المسلّحة التركية شيئاً من إستهداف المدنيين، سواء في “درع الفرات” وسواها -وحتى عند إشتباكاتها مع مسلحي (P.K.K) وسط مناطق ذات كثافة سكانية من الأكراد المشكوك بهم- قد ترقى إلى مصاف جرائم حرب أو إبادة جماعية، بل العكس هو الأصح وقتما كانت الحكومات التركية منذ السبعينيات تبتغي أن تكسب مشاعر مواطنيها كي لا يؤمّنوا حواضن لرافعي السلاح ضد الدولة.
ولكن كل تلكم الإجراءات -إذا كانت متخذة بحذافيرها- فإنها قد لا تكون كافية بالمطلَق في عدم إلحاق أي ضرر بالأرواح والممتلكات، وبالأخص إذا إتخذ المسلحون -المتمترسون في قرى وأرياف “عفرين” الواسعة- أعداداً من المدنيين بمثابة “دروع بشرية”، أو لربما يحتضن البعض من المدنيين أولئك المسلّحين ويدعونهم لإشغال مواقع في حافات قراهم أو في أوساطها، أو أن المسلحين أنفسهم يُجبِرون البعض على ذلك ولا يستطيع المدنيون العُزَّل طردهم.
رؤى الخبراء والمحللين
عملية “غصن الزيتون” وقد إنطلقت نحو “عفرين” فجر (الأحد-21/1/2018)، وأكبر الظن أنها سوف لن تتوقف إلاّ بعد تحقيق أهدافها ولو طال أمدها لعوامل عديدة لا مجال لتفصيلها… وقد إستمعتُ للبعض من أحاديث الخبراء والمحللين الأتراك المقرّبين من رأس الهرم في “آنقرة”، وكأن لسان حالهم يقول:-
(((((((من حقّ الدولة التركية إتخاذ كل ما تستلزمها من خطوات للحفاظ على أمنها القومي والوطني لدرء المخاطر الداهمة نحو أرضها ومواطنيها.
ويُفترَض بقادة “آنقرة” أن يخاطبوا أقرانهم في “دمشق”:- تفضّلوا فهذه الأرض أرضكم، حرروها وطهّروها من معارضيكم، وأعيدوا سيطرتكم على كامل بلدكم كي يطمئن مواطنوكم وينعم مواطنونا، وإلاّ فنحن مضطرون لدرء الأخطار بكل وسيلة متاحة.
فـ”أمريكا” كانت وما زالت ترى الأوضاع في “سوريا” وكل الشرق الأوسط خطراً على أمنها القومي، في حين جاء “الروس” إلى أرضكم بمئات الطائرات وطَيَّروا عشرات القاصفات العملاقة عبر أجواء “إيران والعراق” قاطعة آلاف الأميال للحفاظ على أمن “موسكو” القومي.
وكذلك عملت “بريطانيا، فرنسا، كندا، هولندا، بلجيكا، آلمانيا، النرويج، أوستراليا” تحت حجّة محاربة “د.ا.ع.ش” في عقر دياركم مفتخرين بعشرات الآلاف من الضربات الجوية على رؤوس مواطنيكم وممتلكاتهم، فيما شكل آخرون ميليشيات عاثت في أرضكم وشاركت في تدمير مدنكم وخرّبت عمرانكم وأسالت دماء شعبكم وهجَّروا الملايين من أهلكم إلى المنافي وتسببوا في نزوح ملايين سواهم داخل بلدكم، ولكنكم رحّبتم بجميع أولئك خير ترحاب.
وألم يجاهر قادة “طهران” بأن الإرهاب لو أمسى على (40) كلم من حدودهم مع “العراق” لتدخلوا عسكرياً؟؟ وأَلَم يشيروا لـ”حلب وإدلب” وسواحل البحر الأبيض وجنوب “لبنان” كخط أقصى لأمنهم القومي؟؟
ولماذا تتقبّلون أن يشكّل الأمريكيون في دياركم ((فيلقاً)) تعداده (30,000) من أكراد يناوئون “تركيا”، فيموّلونهم ويسلّحونهم وبجهزونهم ويدربونهم ويقدمون لهم كامل المشورة ويسندونهم على أرضكم بالمدافع والدبابات والطائرات، ولا أحد منكم يعترض على أفعالهم سوى بتصريحات لا تعكّر الصفو… بل وحتى حليفتاكم “روسيا العظمى” و”إيران الكبرى” لا تتفوهان ولو بعبارة قد تجرح مشاعر “العم سام”!!!!
إذن لماذا تلومون “تركيا” بتدخلها العسكري المحدود وقتما يقف الإرهاب شاهراً سلاحه على مبعدة بضعة أمتار عبر أسلاك حدودية شائكة؟؟!!))))