23 ديسمبر، 2024 9:54 ص

عملية “تل أبيض” التركية المرتقبة

عملية “تل أبيض” التركية المرتقبة

تمهيد
تصاعدت على لسان كبار قادة “آنقرة وواشنطن” التصريحات والتهديدات وسط سكوت “دمشق وموسكو”، فيما تتوالى أخبار ولاية “أورفا” عن وحدات تركية تتهيّأ لعمليات برية واسعة تستهدف “تل أبيض” والبعض من محافظة “الرقة” توسيعاً للدور الأمني التركي في الأرض السورية شرقيّ نهر الفرات بعد عمليّتين سابقتَين في غربيّه.
فهل بإستطاعة “تركيا” تنفيذ هكذا عملية؟ وما الغاية من تحشيد قواتها؟؟ ولماذا تتريّث؟؟؟ وما موقف “واشنطن” أزاءها؟؟؟؟ وما أهمّية “تل أبيض”؟؟؟؟؟ وما إستراتيجية “تركيا” في هذا الشأن؟؟؟؟؟؟
تساؤلات نحاول تسليط ضوء مختصر عليها في هذه المقالة.
هل بإمكان “تركيا” شنّ العملية
ما لا شكّ فيه أن “تركيا” الممتلكة لإمكانات عسكرية تعتبر ثاني أضخم قوات مسلّحة ضمن دول حلف (N.A.T.O) قادرة على شنّ هكذا عملية من الناحية العسكرية عند إتخاذ قرار سياسي، وقد نفذت وحدات من جيشها عمليتَين مشابهتَين حققتا إستتباباً أمنياً مشهوداً في “جرابلس” و”عفرين” في الأرض السورية غربيّ نهر الفرات ضمن عمليات “درع الفرات وغصن الزيتون” خلال العامَين المنصرمَين.
دوافع التحشّد التركي
تركز وسائل الإعلام على أخبار ((تعزيز)) “تركيا” لقواتها داخل أراضيها المتقابلة مع “تل أبيض”… ولكن الأصح أنه لا يُسمّى هكذا بالمفهوم العسكري بل هو “تحشّد” يسبق أية عملية عسكرية.
وغاية “تركيا” في هذا الشأن:-
إما:- الإستحضار لعمل ميداني فور إتخاذ قرار سياسي.
أو:- أن الحكومة التركية تتبع مبدأ “التلويح بإستخدام القوة العسكرية” لإستحصال الغاية السياسية الأصل.
وفي الموقف الراهن وسط خلافات بين “آنقرة وواشنطن” قد يجعل هذا التلويح التركي الولايات المتحدة الأمريكية تَفي بوعودها بشأن بلدة “مُنبِج”، وقد تصدر “واشنطن” أوامرها لقادة الميليشيات الكردية لترك هذه البقاع من دون قتال مقابل إلغاء الهجوم التركي.
الإتفاقيات المرتبطة بالعملية
يتساءل البعض:- هل يحق لـ”تركيا” الإقدام على هكذا عمل نحو دولة مستقلّة ذات سيادة.
الواقع المؤسف منذ عام (2011) أن “سوريا” تفككت ولم تعد دولة ذات سيادة من حيث حدودها السائبة مع كل دول الجوار وسيطرة فصائل -موصوفة بالإرهاب- في ثلثي بقاعها بدعم الأجانب المُعلَن بموافقة “دمشق” أو من دونه، وإنتشار الميليشيات في أرضها بالتداخل مع العراق أو المتاخمة للأرض الأردنية والحدود التركية.
وفي محافظة “الرقة” السوربة شرقيّ نهر الفرات على وجه الخصوص -حيث تتمركز فصائل كردية مسلّحة عدوّة لتركيا- هناك وعود لإفراغ بلدة “مَنبِج” من “قوات سوريا الديمقراطية” (الكردية) المدعومة أمريكياً، وجعل مسؤوليات الأمن في ربوعها وإدارتها المدنية مشتركة، ولكن الجانب الأمريكي لم يَفِ بها لغاية الوقت الراهن.
وتشير المواثيق الدولية -رغم الإختلافات في تفسيرها كلّ حسب مصالحه- إلى حقّ أيّة دولة الحفاظ على أمنها الوطني والقومي إذا إستشعرت بأخطار تداهمها… وهذا ما ينطبق على الحالة التركية ببقاعها المتاخمة لـ”سوريا” المضطربة والخارجة عن سلطة “دمشق” منذ ما يزيد على (سبعة) أعوام.
التريث التركي
هناك تلكّؤ تركي للبدء بالعملية رغم تهديدات الرئيس “أردوغان” المتواصلة بقرب شنّها.
هناك عاملان في هذا التريّث، ففي الجانب السياسي ينبغي التأنّي ريثما ينجلي الموقف الأمريكي بشأن “مَنبِج” لإرغام القادة الأكراد لتحقيق الوعود الأمريكية، وثانيهما عسكري صرف بتوفير آخر مواضع تمركز قوات “قوات سوريا الديمقراطية” وسواها من الفصائل الكردية على محاور التقدم المحتملة، وماهيّة أسلحتهم الثقيلة، كي يكون القادة الميدانيون بأوضح صورة ليهيئوا مستلزمات وحداتهم المتحشّدة قبل الإقتحام.
الموقف الأمريكي
رغم الخلافات القائمة بين “آنقرة وواشنطن” فالأمريكيون ليسوا مستعدين للتضحية بـ”تركيا” من أجل أكراد يحتاجونهم ويلهثون وراءهم ويرضخون تحت أوامرهم، فـ”تركيا” دولة كبرى ومؤثّرة في المنطقة وذات موقع جغرافي إستراتيجي لا يُستغنى عنه وصاحبة قوات مسلّحة ضخمة ضمن الـ”N.A.T.O”، ناهيك عن إعتبارها من أعظم عوامل التوازن في الشرق الأوسط تجاه “إيران” المجاورة ومتاخمتها لروسيا الإتحادية ودول البلقان وقطرَين عربيّين وإمتلاكها مضائق إستراتيجية تتحكّم في التجارة البرية بين “آسيا وآوروبا” وتستحوذ على الملاحة بين البحرين الأسود والأبيض المتوسّط، تُضاف إليها عوامل عديدة جيوستراتيجية يطول تعدادها.
ففي حالة بدء عملية “تل أبيض” يحتمل أن تحتفظ “واشنطن” بموقف المتفرّج ولا تتدخّل بقواتها البرية والجوية وتكتفي بالتصريحات وبعض الإستنكارات، فيما ستواصل دعمها للأكراد بالأموال والسلاح من دون تضحية بجنودها، وتبقى مستحوذة عليهم لتستثمرهم أوراق ضغط تحركهم أينما ووقتما وكيفما تشاء، كما تعاملت معهم في “العراق” وسواه منذ الستينيّات ولغاية يومنا هذا.
تحصين الأكراد لمواقعهم
يحقّ لهم ذلك وهم يشاهدون قوات تتحشّد قبالتهم وتتهيّأ لإقتحام بقاع يسيطرون عليها ويتمتعون بخيراتها ومواردها ويتحكمون في أمورها. في حين تشير التحصينات كذلك إلى عزم الأكراد للدفاع عن “تل أبيض” كي لا تقتحمها القوات التركية بسهولة، وإلحاق الخسائر في صفوفها وتعويق تقدّمها لأقصى مدة ممكنة.
أهمية “تل أبيض” الإستراتيجية
يقدّر القادة الأكراد جيداً أن “تل أبيض” هي “الأرض الحيويّة” -حسب المصطلحات العسكرية- لعدة أسباب:-
كونها تقع على أفضل طريق دولي ينزل من مدينة “أورفا” التركية نحو مدينة”الرقة” السورية.
أن الإقتحام التركي -لو حدث- فإنه يفضّل التقدم على هذا المحور وترك بلدة “عين العرب/كوباني” التي يعتبرها الأكراد رمزاً.
أن الأتراك لو إخترقوا “تل أبيض” نحو الجنوب (40) كلم فقط فإنهم سيستحوذون على ملتقى يتحكّم بـ(4) طرق عامة تربط “الحسكة وقامشلي” شرقاً بـ”كوباني ومَنبِج” غرباً، وولاية “أورفا” وبلدة “تل أبيض” شمالاً نحو محافظة “الرقة” جنوباً.
وإذا مسك الأتراك هذا الملتقى فإن البقاع الفاصلة بين “تل أبيض” شرقاً “نهر الفرات” غرباً ستُعدّ بحكم المرتبكة عسكرياً ويصعب الدفاع عنها، وقد يكون بإقتدار القوات التركية فرض حصار بمناورة إلتفاف أو تطويق المدافعين فيها.
نظرة “تركيا” نحو “تل أبيض”
تتهم الحكومة السورية “تركيا” كونها تقدم على إحتلال أجزاء من الأرض السورية كما عملت في “جرابلس وعفرين”.
أما “آنقرة” فهي تدرء تلك التهمة مستندة على ما يأتي:-
تمتلك “تركيا” وطناً شاسع الأرض والبراري ذات كثافة سكانية فوق الوسط وتبلغ مساحتها (أربعة) أضعاف كل الوطن السوري، وإنها ليست بحاجة لمزيد من الأرض.
لا تبتغي -كما في عمليتَي “درع الفرات وغصن الزيتون”- سوى إنشاء مناطق آمنة تحميها قواتها من موازنة دولتها، فتنقل إليها ألوف اللاجئين السوريين مع مخيّماتهم اللائقة ليعيشوا في أرضهم ووسط أقرانهم متنعّمين بلغة واحدة وثقافة متقاربة وخدمات بلدية لا بأس بها ومناهج دراسية سورية وسط مدارس تفتحها “تركيا” لأولادهم، كما باتت عليها بلدات “جرابلس، الراعي، الباب، عفرين” التي أضحت بمجموعها آمنة -نسبياً- في غضون عامَين إنقضيا.
تتعهد “تركيا” بسحب قواتها وتترك هذه البقاع حالما تهدأ الأوضاع ويستتب الأمن فيها وتعود الحكومة السورية لتقديم الخدمات البلدية لمواطنيها المحرومين طيلة ما يزيد على (سبع) سنوات ونصف، وما زالوا.