منذ اكثر من خمس وثلاثين سنة والعراقي يتكدس على شبّاك الحكومة حين يتعلق الأمر بأيّة خدمة حكومية، فمراجعة مركز تجنيد (سابقا)، دائرة احوال مدنية، مديرية مرور، دائرة جوازات، مصرف حكومي، دائرة ضريبة، دائرة تسجيل عقاري، دائرة كاتب عدل، لا فرق إن كان يريد أن يدفع أو يقبض، فالطريق نحو ذلك، كان ومازال، نفسه؛ وهو أن يتكدّس الناس غالبا في العراء بانتظار دورهم لإنجاز معاملاتهم.
لقد اختارت «عمليات بغداد» أن تقتبس هذه التقنية “الناجحة” وتعممها على أهالي بغداد في كل تحركاتهم. فالبغدادي مُلـْزَم بالنفاذ من خلال المنفذ الضيّق [= خرم الابرة] الذي يتركه مسؤولو نقطة التفتيش للمواطن. فعادة ما يُضَيّقُ الشارع الرئيسي الذي يحوي ممرين (أو ثلاثة أو أربعة)، فتتشكل صفوفا طويلة ومتداخلة من السيارات يتزاحم سائقوها فيما بينهم أملاً بكسب بعض الوقت على حساب الآخرين. بعد دقائق طوال (قد تمتد الى ربع أو نصف ساعة أو حتى ساعة).
أما كادر نقطة التفتيش ،الذي نالَ منه التعب وحرّ الصيف وبرد الشتاء وغاز العادم المنبعث من آلاف السيارات التي تمر عليه يوميا لتشكل ضغطا نفسيا شديدا عليه، فهو في حالة انفصال تام عن الواقع، فهو يستخدم جهازا للتفتيش فاقد للكفاءة بشهادة العالم كِلـّه إلاّ العراق، فحتى صانعه أدين بتهمة الغش والخداع وحكم عليه بالسجن عشر سنوات. وليس أمام كادر نقاط التفتيش سوى أن ينصاع لأمر الجهات العليا ويبقى يلوّح به بوجه الناس. كما لا يستطيع كادر نقاط التفتيش أن يُجْرِيَ أيّ تدقيق جديّ لأنه سيفاقم من الازدحام ومن تذمر الناس الذين ما ان يجتازوا نقطة تفتيش حتى تتلقفهم أخرى
إن اللامبالاة هي الصفة الغالبة على أغلب كوادر نقاط التفتيش؛ فهم لا يكترثون للزحام ولا يفتشون ايضا. ولا يلفت انتباههم شيء سوى نسيان المواطن فتح نافذة السيارة أو اطفاء مصابيح السيارة ليلا، فعقوبته هي أمّا التعنيف أو طلب أوراق السيارة وتفتيشها، أو كليهما معا.
ويبدو أن السببين الرئيسيين اللذان يقفان خلف عملية التضييق هما نقص كادر نقاط التفتيش وقناعة توفرت لدى «عمليات بغداد» أن تقييد حركة المواطن تُسْهِمُ في مكافحة الارهاب. ولا أدري من أية مدرسة استقى قادة الأمن هذه العقيدة البلهاء.
أما الخنق الآخر الذي ابتدعته «عمليات بغداد» فهو قرار الزوجي والفردي للسيارات التي مازالت تحمل لوحات الفحص [= سيارات المنافيست]. فهذا قرار ارتجاليّ آخر لم يكن له أي انعكاس على الصعيد الأمْني الذي هو صلب اختصاص «عمليات بغداد». فالذين ينجحون في تفجير عشرة سيارات في اليوم الواحد، سوف لن يصعب عليهم تأمين سيارات ذات ارقام زوجية أو فردية. وهذا ما حصل فعلا في التفجيرات التي تلت صدور هذا القرار.
أما المواطِن فهو موقِنٌ بِلا جدوى نقطة التفتيش كليا، فهو فاقد الثقة بكفاءة كادر التفتيش واجهزته، وهو [= المواطن] متأكد أن هذا الخنق المُشدد الذي يسلبه الكثير من وقته وراحته هو مِنْ دون أيّ مردود أمني. فالمجاميع المسلحة تقتل وتغتال وتفجر حيثما ووقتما وقدر ما تشاء كما هو بائن على ارض الواقع، وأكثر ما تهواه هو التجمعات البشرية بأنواعها وحيثما تكون. وها هيَ «التدابير الأمنية» توفر لتلك المجاميع ما تبتغيه من اهداف مجانية لا تحتاج أي جهد لبلوغها.
لقد دفعتني عبثية الخنق هذه الى الاستفسار من ضابط برتبة عميد في وزارة الدفاع عن جدوى هذا الإجراء، فأجابني بأن الغرض الأساسي من السيطرات هو «حماية القطعات العسكرية ومنع حصول انقلاب عسكري» ليس إلاّ.
لا ادري لماذا تخاف الطبقة الحاكمة من انقلاب عسكري وهي غافية في أحضان أكبر سفارة أميركية في العالم، فبقاء الطبقة الحاكمة رهن بإرادة أميركا لا غيرها. ثم أي عسكر هؤلاء الذين سينفـّذون انقلابا وهم غارقون في الفساد من رؤوسهم الى اخماص اقدامهم، فهم لم يحصلوا على مناصبهم إلا من خلال تقديم فروض الولاء والطاعة لحزب أو تيار، أو انهم اشتروها بِمئات آلاف الدولارات من حـِرّ مالهِم “الحلال”. ومن كان لا مِنْ هؤلاء ولا اولئك، فإن «الطبقة الحاكمة» تكفـَّلَتْ بإفساده حين عطـّلت مبدأ الثواب والعقاب وأغْرَقَته بالإمتيازات والعطايا، فتكرّشَ الجميع في مقاعدهم الوثيرة لايهشّون ولا ينشّون ديدنهم تعظيم مواردهم وامتيازاتهم.
وحين سَألتُ محدّثي فيما إذا كانوا بصدد وضع ستراتيجية أمنية جديدة للتصدي للإرهاب المتفاقم، أجابني محدثي ان لا حلّ للارهاب سوى حل الأزمة السياسية التي تعصف بالبلد منذ انتخابات 2010. وأقرّ بأن لا خطة أعدت أو قيد الإعداد للقضاء على الارهاب من خلال العمل العسكري لأن ذلك غير مُجْدٍ. وأنا اتفق معه في هذا تماماً.
إنّ أهمّ ما ينقصنا فعلاً هو قيادة أمنية ذكية نزيهة تفكر بعقلية القرن الواحد والعشرين، لا قيادة أمنية تدير الأزمة بعقلية عصر ما قبل التصنيع وعجزت عن بناء جهاز استخباراتي ومعلوماتي كفوء يعد الخطوة الأساسية الأولى للتصدي للإرهاب.