إعتاد المسؤولون والخبراء الاقتصاديون وحتى المواطنون العاديون في السنوات الأخيرة أن يدقوا ناقوس الخطر للتحذير من تراجع احتياطي العراق من العملة الصعبة. آخر تصريح بهذا الشأن كان لمحافظ البنك المركزي العراقي وكالة على العلاق الذي أكد قبل ثلاثة أشهر بأن رصيد الاحتياطيات الأجنبية يبلغ 49 مليار دولار. بهذا يكون رصيد العملات الاجنبية قد انخفض بأكثـر من الثلث مقارنة بأعلى مستوى بلغه في منتصف عام 2014 عندما سجل رقما قياسيا مقداره 77 مليار دولار. ويشير هذا بوضوح إلى وجود اختلال هيكلي خطير في ميزان المدفوعات لا يمكن حله بقرارات إدارية سهلة، لا سيما وأن المؤشرات تُرجح استمرار استنزاف احتياطيات النقد الاجنبي في العراق على المستويين القريب والمتوسط . وكل ذلك يُنذر بزيادة الضغوط على العملة الوطنية وإلقاء مزيد من الشكوك حول قدرة البلاد في تمويل الواردات والاستثمارات الضرورية.
الجميع متفقون على أسباب الهبوط الحاد في الاحتياطيات الأجنبية المؤلفة بالدرجة الأولى من سندات خزانة أميركية وأوروبية، إضافة إلى أرصدة نقدية بعملات الدولار واليورو والجنيه الاسترليني وسبائك ذهبية، إذ لا يختلف إثنان بأن العامل الحاسم وراء هذه الأزمة هو انهيار أسعار النفط منذ حزيران 2014. صحيح أن الأسعار تعافت نسبيا في أواخر عام 2016 بعد قرار منظمة الأوبك وروسيا بتخفيض معدلات الانتاج، إلا أن عودة أسعار الذهب الأسود إلى مستوياتها السابقة يبقى حلماً بعيد المنال في ظل استمرار الفائض في العرض على المدى المنظور. من هنا لا يجوز التعويل على ارتفاع جوهري وشيك في الأسعار. غير أن هناك سببا آخر للمشكلة يكمن في تدني أسعار الفائدة على المستوى العالمي الأمر الذي يعني أيضا حصول البنك المركزي العراقي على عائد مالي أقل على السندات الأميركية والأوروبية وعلى أرصدة العملات الصعبة في البنوك الأجنبية والتي تؤلف حصة الأسد في الاحتياطيات الأجنبية للعراق.
مقابل شبه الإجماع على الأسباب، هناك اختلافات كبيرة في الحلول المقترحة لأزمة انهيار احتياطي النقد الاجنبي. معظم أعضاء اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب العراقي والكثير من المهتمين بالشأن الاقتصادي يركزون على مكافحة غسل الأموال وعلى ما يدعونه بـ”تهريب” العملة الصعبة والسوق السوداء وانتقاد مزاد العملة للبنك المركزي وحتى المطالبة بإيقافه بدعوى وجود شبهة فساد في بيع الدولارات للبنوك الخاصة وشركات الصيرفة. كما اقترح البعض فرض رسوم على تحويل العملة الصعبة إلى الخارج. بل ويذهب البعض إلى حد الدعوة لاحتكار العملة الصعبة من قبل الدولة وتحريم تعامل المواطنين والشركات الخاصة بها.
من المؤكد ان مكافحة غسل الأموال وعمليات التهريب والفساد المحتملة تبقى قضية مهمة وملحة بغض النظر عن حجم احتياطي العملة. وفي هذا الشأن توجد قوانين يتعين على البنك المركزي وأجهزة الدولة الأخرى تطبيقها بصرامة. لكن شرعية هذه الاجراءات لا تبرر الدعوة لفرض قيود إدارية تعسفية على التعامل بالعملات الصعبة والنظر إلى الدولار واليورو وكأنها حرز مصون لا يجوز مسه. أما المطالبة باحتكار الدولة للعملات الصعبة فإن أقل ما يقال بشأنها هي أنها سمة أساسية للنظم الشمولية. لقد دخل هتلر وستالين تاريخ الاقتصاد باعتبارهما أول من طبق هذه الاحتكار كمبدأ دائم في السياسة الاقتصادية. بعدها تحول هذا المبدأ الى سياسة سائدة في البلدان الاشتراكية وفي البلدان النامية التي اتبعت ستراتيجية هيمنة القطاع العام. وكعادته “أبدع” الطاغية صدام حسين في إحكام السيطرة على العملات الصعبة في البلاد حتى أصبحت بالفعل حكرا عليه وعلى أفراد عائلته والمقربين منه. لم تقتصر نتائج هذه السياسة العقيمة على انتعاش السوق السوداء وانهيار الدينار العراقي وتعميق الاختلالات في توزيع الدخل فحسب، وإنما أفرزت أيضا مظاهر وسلوكيات اجتماعية ضارة. ولا ريب أن الكثير من العراقيين يتذكرون كيف كان بعض الأجانب والمغتربين العراقيين يتصرفون أثناء فترة الحصار وكأنهم “ملوك” لمجرد أنهم يملكون بضع مئات من الدولارات.
باختصار يمكن القول بإن اللجوء إلى إجراءات إدارية لفرض قيود تعسفية على التعامل بالعملات الصعبة وعلى عمليات تحويلها وغيرها من التدابير “السهلة” لن يحل مشكلة استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي، وإنما سيؤدي الى نتائج عكسية تتمثل في تراجع الثقة بالعملة الوطنية وإذكاء المضاربات والسوق السوداء والإضرار المباشر بمصالح المواطنين والتضييق على حريتهم في السفر والعلاج والدراسة في الخارج وغيرها.
إن حل مشكلة التراجع الخطير في احتياطي العملة الصعبة يتطلب بالدرجة إجراءات اقتصادية وليس إدارية، وفي مقدمتها تنفيذ إصلاحات صعبة في مجال سعر الصرف وتفعيل الضريبة الجمركية. من الواضح تماما أن قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار أصبحت بعد 2014 مبالغ فيها في ظل الظروف الجديدة الناجمة عن استمرار تدني أسعار النفط. غير أن البنك المركزي لم يتحرك واكتفى فقط بتخفيض قيمة الدينار العراقي في أواخر عام 2015 بنسبة ضئيلة لم تتجاوز 2%. وهو تخفيض طفيف لا يتناسب مع المتغيرات المالية والاقتصادية للبلاد. من الواضح أن البنك المركزي متمسك بسياسة سعر الصرف الثابت وربط الدينار بالدولار. وإذا كانت هذه السياسة ضرورية ومبررة بعد عام 2003 ونجحت في إرساء الاستقرار النقدي الضروري لعملية التنمية، فإن التشبث بها إلى ما لا نهاية لا يفيد الاقتصاد العراقي على المدى الطويل. ويبدو أن تردد البنك المركزي في اعتماد المرونة في سعر الصرف يعكس الخشية من التكاليف السياسية والاجتماعية المحتملة لتخفيض قيمة الدينار مقابل العملات الأخرى والارتفاع المتوقع في أسعار السلع المستوردة. من جهة أخرى يؤكد هذا التردد المخاوف من الالتفاف على استقلالية البنك المركزي المثبتة دستوريا وتزايد تبعيته للحكومة، لا سيما بعد الإطاحة بالقيادة السابقة للبنك برئاسة سنان الشبيبي استنادا إلى تهم فساد ملفقة وكيديّة.
لكن هذا الوضع لن يخدم الحفاظ على الاستقرار النقدي الذي يتطلب حاليا الإقدام على إجراءات حاسمة وجريئة، وفي مقدمتها تخفيض واضح في سعر صرف الدينار. ويمكن لمثل هذه الخطوة أن “تصيد” أكثر من عصفور بحجر واحد: أولا تقليل الطلب على العملة الصعبة وعلى السلع المستوردة وثانيا تحسين القدرة التنافسية للإنتاج المحلي وثالثا رفع إيرادات ميزانية الدولة وبالتالي تقليص العجز المالي. وهذا ما تؤكده تجارب عدة دول، ومنها روسيا ومصر. في عام 2014 دخلت روسيا في وضع حرج للغاية نتيجة انهيار أسعار النفط وفرض الغرب لعقوبات اقتصادية بحقها. غير أن التوقعات بانهيار الاقتصاد الروسي لم تتحقق. ويعود الفضل في ذلك بالدرجة الأولى إلى إيجاد ترابط معين بين سعر صرف الروبل الروسي وأسعار النفط العالمية. صحيح أن ذلك أدى إلى فقدان الروبل لأكثر من نصف قيمته مقابل الدولار في عام 2015، ولكنه أضفى في نفس الوقت نوعا من الاستقرار على سعر النفط بالروبل وبالتالي حال دون تهاوي عائدات الدولة. ولم يكن ذلك ممكنا لولا إقدام البنك المركزي الروسي على تعويم الروبل في تشرين الثاني 2014. تجربة إيجابية مماثلة قدمتها مصر التي أقدمت هي الأخرى في أواخر عام 2016 على تعويم الجنيه. ورغم الجدل الدائر حول تأثير ذلك على حياة المواطن المصري، كان هذا القرار الصعب وراء تسجيل ارتفاعات متتالية في احتياطي مصر من النقد الأجنبي. سيقال بالطبع إن ظروف روسيا ومصر تختلف عن العراق، وهذا كلام بديهي لا يقدم ولا يؤخر لأن ظروف كل بلد تختلف عن بلد آخر ، ولكن ذلك لا يمنع من الاستفادة من تجارب البلدان الأخرى، لا سيما وأن روسيا مثلها مثل العراق تعتمد بالدرجة الأولي على صادرات مصادر الطاقة.
إن الأوضاع التي يمر بها الاقتصاد العراقي تفرض على البنك المركزي الانتقال و اتباع سياسة مرنة في مجال سعر الصرف تمهيدا لتعويم الدينار أمام العملات الأخرى على المدى المتوسط. ويمكن هنا اللجوء إلى ما يدعي بالتعويم الموجه Managed Floating الذي يسمح للبنك المركزي بالتدخل للحيلولة دون حدوث تقلبات حادة وخطيرة في سعر صرف الدينار.
أما محاولة حل مشكلة تراجع احتياطي العراق من النقد الأجنبي بواسطة قرارات فوقية “سهلة”، فلن يعني سوى تأبيدها والمغامرة بتوليد أزمات أخرى.
نقلا عن المدى