18 ديسمبر، 2024 9:31 م

عمق الرؤية والرؤيا في(أرباض)

عمق الرؤية والرؤيا في(أرباض)

النص الشعري..تجاوز المألوف بصوره التي ينسجها المنتج(الشاعر)بترجمة انفعالاته الداخلية لتحقيق فعل الكتابة الذي هو(نوع من ممارسة الحرية) على حد تعبير جان بول سارتر..
و(أرباض)التي مفردها(ربض) و(رابض) و(مربوض) والتي تعني المكان الذي تتم فيه الاقامة). بوحداتها الشعرية التي نسجتها انامل المنتج (الشاعر) مقداد مسعود مبنى ومعنى.. واسهمت دار ضفاف في نشرها وانتشارها /2018.. كونها نصوصا تسعى الى ترسيخ شعرية اللفظ..وعمق الرؤية والرؤيا عبر جملة حالمة متجاوزة لواقعها (بانزياح معيار اللغة).. بتوظيف لغة مكتنزة بطاقة توليدية مع اعتماد سردية شعرية تسمو باللغة وتنقلها من حيزها الواقعي المتداول الى حيزها التخييلي عبر مغامرة يخوض غمارها منتج (شاعر) قلق يسعى الى خلق تجربة تسهم في توهج النص المتكىء على جزئيات الصور..فضلا عن انها نصوص مفتوحة تطغى عليها السردية الحكائية مع تلاشي الحدود الفنية وسقوط المركزيات…
( ذات اغماضة.. مر بي آنذاك..مظلتي شعلة خضراء كثيفة الزرقة والثمرات.. هل تلاقينا بعد مسافتين من الازرق ؟ هناك من يحرس الطريق من الهوام..يليه من يتحكم بجهد الخريطة وجهات المسافات..ستتملص قدماي منه ومن سواه..وهكذا هكذا من مسافة القدمين الى الاجنحة..
اذن علي ان اكتب:نافذة وخلفها اكون ولا اطل منها..لا يكون معي ظلي ولا مرايا.. تصيدني شباكها أو..تعويذة تحرسني..هذه ليست شروطي ولا مداخل أو مخرجات أو تخريمات الازرق ولا تنتسب لجسور توصلني التاسع البرتقالي..ولاتهمة شعلة خضراء تضيء ولا تحرق أو تحترق..
ربما هي سلالم/ سدرة حورية/تتوسط بيوت ابريهة العتيقة
أو حبات مسبحة تتلوى فوق سدارة سوداء تتوسد ماكنة خياطة من نوع سنجر..أو وصايا مبخرة تتناقلها رئات العائلة.. في يوم واكد لا تذكره خراطيم ناركيلات الاصفهانيات القادمات من ميناء(بوشهر) ولم تشطفه الامهات من نفانيفهن الفيسرنكي..) ص7 ـ ص8
فالشاعر(المنتج)يكشف عن نص يعكس فعالية تسعى الى الانفتاح على السرديات الحكائية والتشكيل باعتماد عنصر الحداثة في ايصال رسالته التي تحاكي النص وتضفي عليه ابعادا جمالية وتأملية..اضافة الى انه يدخل سايكولوجية التواصل الشعري بوصفها(خطابا غنيا بالدلالة)..لتحقيق الامتاع والاقناع في نصه الجامع ما بين الموقف الشعري والاتجاه النفسي من خلال توظيفه اللفظة الشعرية ذات الدلالة الجمالية..التعبيرية التي تلامس الذاكرة المشحونة بفضائها التأملي..فضلا عن دلالتها الرامزة التي تسهم في الارتقاء بالنص وتعميق دلالاته…
(غفوت في غبش الارباض..رأيت عزيزا كفخته الذلة.يؤذن فينا على جسر سوق المغايز(أريد أن أتقدم الى قدري.يذبحني هذا التأخير)ثم رايته يعتلي ساعة سورين.يوقفها.يهبط..يسعى يعبر جسر مقام علي..يطير ويحط على ظهر أسد بابل ينادي المارة(أريد قدري.يذبحني..)..يقفز..يتلفت..يهرول نحو الرجال يمسك معاصم اليسار ويعطل الساعات ويصرخ في النسوة:أستحلفكن بالله أوقفن ساعاتكن..أريد الوصول الى قدري.وكذا فعل مع ساعة البريد المركزي المطل في الحلم على نهر العشار في 1965 ثم رأيته يصرخ فينا ويهرول:هيا التقطوا صورة جماعية أنا وقدري.أنا وقدري فقط.) ص47.
فالشاعر في خطابه الاستعاري يمازج بين الخطاب الصوري والخطاب الذهني لخلق موقف فكري بقدرة لغوية ورؤية شعرية متصلة بطبيعة تكوينه الذهني والعاطفي وهو يحاول الانفتاح على عوالم مكانية وزمانية(جسرسوق المغايز/ساعة سورين/ظهراسد بابل/ ساعة البريد المركزي/نهر العشار…) شكلت بؤرا ثقافية مضافة متنافذة بمستويات متفاوتة..مع المحافظة على نسقية شعرية النص ابتداء من البنية المتمثلة بالايحاء والاستعارة والتعبير الصوري اضافة الى توظيفه تقنيات فنية واسلوبية كالتنقيط والتكرار والاستفهام..مع تمرد على القوالب الجاهزة والاشكال التقليدية وتجاوزها بقلب الموازنة النفسية بين الـ (انا)والـ (هو) برحلة وجدانية مازجة بينهما..
(أعرض عن الجاهلين) هي وصيته لي..ويضيف:ولا تعرض عن وطن تحصن في الفقرات العنقية لكوكبة من خمرة الفقراء..حاولت تحويلها كميراث لحفيدي فهمست بخشوع شموع جوار ضريح ( أعرض عن الجاهلين) تأملني الحفيد بعينين جميلتين جديدتين كل يوم وابتسم ثم قال: اذن علي الفرار…لا…هل توصيني بالعزلة ؟.. لا..اذن علي اضرام الماء نحوهم.. الجاهلون لوثوا الهواء كما لوثوا الفقه..لوثوا الوسادة كما لوثوا السيادة..أضرموا الارضة في حياتنا وما حولها من أرباض.. يسلبون الربض ويبيعونه بما فيه من ثناء وشراة وباعة ومسقفات ومعلف..الجاهلون يتحكمون بمنافذ الحدود ويقيمون الحد علينا ولا يعرفون أي صلاة هي الصلاة الوسطى ولا تفوح منهم سوى عفونة ما تركته كروش أسيادهم.. عفونة حيوانات نافقة منذ ايام في نفق مسدود…وعفونة سمك نافق من كرسي الديباج..) ص87..
فالشاعر(المنتج) يحاول استنطاق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد المعاني..اضافة الى انه يحاول ان يستثمر التداعي والتفاصيل اليومية لاضاءة بعض العوالم المعتمة بلغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها وخطاب الموضوع وصراعاته الحياتية للكشف عن دواخل النفس باعتماد السرد الشعري واقامة علاقة جدلية بين اجزاء النص بجمل موجزة..مختزلة..مشبعة بالرؤى الدلالية والجمالية..المشحونة بطاقة التوتر من أجل الحفاظ على العاطفة المتمردة على الواقع ببناء فني متصاعد ولغة مسكونة بابعادها الرامزة..الكاشفة عن عمق المعنى..(فجأة توقف كل شيء فشعرت الساعة اليدوية بوحدتها المظلمة في نهار مشمس..ازداد الظلام ظلاما وهي ترى نفسها في نعومة بطانة جيب سترة عرفتها من عرق صاحبها البغيض..)..ص83..
وبذلك قدم الشاعر نصوصا تتسم بالوعي الفكري..مع توظيف الفنون الجمالية المتفاعلة والبناء النصي المتسم بالجدية وعمق الايقاع مع تتابع صوري متميز بكبرياء الالفاظ وسموها المحققان موقفا انسانيا بلغة متشابكة..مستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي) ونابشة لها من اجل استنطاقها مبنى ومعنى…
——-*المقالة منشورة في (طريق الشعب) 27 / تشرين الأول/ 2019