كانت قمة الانطلاقة الفكرية الاوربية قد شع بريقها في عصر النهضة ، ممن اسهوا في رفد الحاضرة الانسانية بأفكار نيرة، أحدثت مجموعة ثورات فكرية ، نالت اهتمام الملايين من الشعوب الغربية، ومن ثم تتلمذ عليها مفكرو عصر النهضة في بلدان اخرى ومنها المنطقة العربية، التي شهدت جدبا فكريا في العصور المظلمة، وان كانت هناك افكار كثيرة تتصارع في الخفاء في تلك الحقبة التي أسميت بالفرة المظلمة، لكنك ما ان تتطلع بين ثنايا علمائها ومفكريها حتى تجد انها ربما قد أبدعت افكار ورؤى اسهمت في اعادة صياغة منهج التاريخ العربي الاسلامي، الذي استفاد هو الاخر من عصر النهضة الاوربية في انبثاق ثورات شعبية ورؤى قومية ووطنية ودينية لكنها ليت متطرفة كما هي عليها الان.
اللافت للنظر ان الغرب يشهد الان نضوبا وجفافا فكريا غريبا من نوعه، بعد ان كانت انطلاقة مجموعة كبيرة من العلماء والمفكرين توالوا على سرد فلسفاتهم عن العالم ونشأته والكون وطريقة تكونه، وظهر من بين اؤلئك العلماء من عد صناعة الكون عملا عبثيا، اراوا من خلاله اعادة تركيبه من جديد لتصحيح مساراته وفقا لرؤاهم التي تخدم بلدانهم في ستراتيجيتهم الاستعمارية الاستعلائية ، التي تظهر مقدرة اميركا على ان تكون هي سيدة العالم بلا منازع، منذ ان سقط الاتحاد السوفيتي وانتهت الشيوعية كمرحلة عدوها مشوهة في التاريخ الانساني ، وان ( نهاية التاريخ ) قد تحققت فعلا بسيطرة امريكا على مقدرات العالم، الا ان هناك منظرين ومفكرين امريكيين ربما خالفوا هذه النظرية بأن نهاية التاريخ وشيكة بسيدة العصر الاميركي على العالم، مشيرين الى ان اغلب مفكري امريكا هم ( مجانين ) يريدون تفسير الكون وتسييره وفقا لمشيئتهم وما يخدم خطط امريكا في الاستحواذ على مقدرات العالم ودوله.
لقد شن أستاذ الفلسفة الامريكي المرموق ديفيد ميكيكس. الذي توفي في العام 2004 عن عمر يناهز الرابعة والسبعين هجوما لاذعا ضد توجهات ورؤى احد عمالقة الفكر الاميركي ومنهم المفكر الفرنسي الاصل جاك دريدا .. يرى ميكيكس تحبباً أن سارتر كان الرجل القبيح الذي دأب على إغراء النساء من حوله. وعلى الرغم من قسوة مفاهيمه الفلسفية وصلابتها وصعوبتها، فقد أفسح مجالاً رحباً للحلم. استفز المخيلة للبحث في الأسباب الضرورية التي تجعل من الكون ضرباً من العبث الغامض. صحيح أن المهارات العقلية التي ينطوي عليها الإنسان مشتتة في غير اتجاه، لكنها تحاول على الدوام أن تفهم ما يبدو متعذراً على الفهم. في المقابل، وفي ضوء هذه المقارنة الذكية مع واحد من عمالقة الفكر في القرن العشرين، يرى سارتر البحث في عبثية الكون تمهيداً لوضعه تحت سيطرة العقل، تتحوّل لدى دريدا شكاً عميقاً وخطيراً في المسلمات الفكرية والفلسفية والأخلاقية التي تحتضنها الثقافة المعاصرة. وهذه ما يجري التعارف عليه باليقين الميتافيزيقي في التراث الفكري المتعاقب منذ الفلسفة الاغريقية القديمة. ومعنى ذلك أن ثمة مرتكزات أساسية يصعب تجاهلها في تشكيل الهوية الأخلاقية والإنسانية للفرد المعاصر وللمجتمعات قاطبة في كل زمان ومكان. لم يجد دريدا في هذا المنحى المتوارث منذ الحقبة اليونانية مروراً بعصر التنوير الذي أطلق عجلة الثقافة الغربية الحديثة، قيمة يمكن الاعتداد بها من أجل الارتقاء بالفكر الإنساني إلى فضاءات متقدمة
يرى المفكر الاميركي ديفيد ميكيكس ان العالم الامريكي دريدا مهووس بقلب الحقائق رأساً على عقب. يناصب الحضارة الإنسانية عداء دفيناً لا خلاص له، إ نه. يصطاد في الماء العكر بحثاً عن ضحايا محتملين يمثل في قاماتهم الفكرية والفلسفية ثم يحيلهم حطاماً مهشماً. يتوجّس شراً من كل رموز الإرث الفلسفي الذي تعاقبوا على صناعة العقل في القرن العشرين. والأخطر من هذه جميعاً أنه يشكك في قدرة اللغة نفسها على مقاربة الحقائق والتعبير عنها. يمارس هذه الموهبة على نحو من ميل ملتبس، والأرجح جهنمي، للطعن في مشروعية الأسس التي قامت عليها المجتمعات الصناعية المتقدمة، من وجهة نظر ميكيكس.
وقد تصدر الطلاب في فرنسا أولاً حركة واسعة وعميقة احتجاجاً على ما اعتبروه انتقاصاً فاضحاً من حرياتهم السياسية والاجتماعية وإساءة متعمدة لطموحاتهم وحجمهم الحقيقي في ممارسة السلطة وتحمل المسؤولية والمشاركة في صوغ القرارات المصيرية. كانت فرنسا سباقة في الانتقال من حالة الامتعاض الى إعلان التمرد على أيدي الأكثرية الساحقة من الطلاب في العام 1968. بدت تلك الأجواء المفعمة بالرغبة في مساءلة الأوضاع القائمة وإعادة النظر في طبيعة المؤسسات الفكرية والسياسية والاجتماعية الراسخة، ملائمة لجاك دريدا. مشروعه الفكري الذي ينطلق من الشك في كل المسلمات الفكرية والتاريخية يستلزم بيئة ملتهبة كهذه. وفي «المعسكر» الانغلوساكسوني المقابل، وتحديداً في مركز صنع القرار الفلسفي في بريطانيا والولايات المتحدة ومن لف لفهما، كان ثمة استياء بالغ من قراءة دريدا للمستجدات الراهنة التي أخذت شراراتها تمتد رويداً رويداً إلى الدائرة الغربية الأشمل برمتها.
لم تمضِ أشهر قليلة على حصول دريدا على الدكتوراه الفخرية، بدا أن ثمة نزاعاً صامتاً قيد الاندلاع بين توجهاته الفكرية وبعض من يقف الى جانبه في «الخندق» الفرنسي من أمثال فوكو ورولان بارت ودولوز وسواهم، والمفكر السياسي الأميركي، فرنسيس فوكوياما.
بدا هذا الأخير آنئذٍ نجماً ساطعاً في سماء الفلسفة الأميركية بعد أن نشر كتابه المثير للجدل والريبة «نهاية التاريخ». اعتبر فيه أن الديموقراطية الرأسمالية أثبتت فعلاً أن التاريخ السياسي للمجتمعات الإنسانية قد وصل الى نهاية الطريق بزوال الاتحاد السوفياتي، وأن سقوط الفكر الاشتراكي بصيغته الشيوعية إيذان لا شك فيه بأن النظام الرأسمالي الأميركي قد حقق فوزاً ساحقاً لا عودة عنه على الإطلاق. فقد ربحت الولايات المتحدة معركتها الأخيرة ولا حاجة بعد ذلك الى القول بأن للتاريخ نهايات أخرى لم يبلغها بعد.
شكلت هذه النظرية في تلك الأثناء من النشوة الأميركية الطارئة، دعماً غير مباشر، على الأرجح، لأصحاب الرسالة التي سطروها احتجاجاً على منح دريدا الدكتوراه الفخرية. خاض دريدا حرباً جديدة مفروضة عليه بصمت.
لم يكترث ديفيد ميكيكس بنظرية فوكوياما ولم يعبأ بمضمونها. وفي الضفة الأخرى، لم ينسَ مناوئوه ما اعتبروه اختراقاً في الوقت الضائع حققه دريدا في واحدة من أعرق الجامعات في العالم. بين الاعتقاد بنهاية التاريخ لدى فوكوياما، والميل الى اعتبار التاريخ ضرباً من الوهم لافتقاره الى الحقائق المطلقة والتزوير الذي تمارسه اللغة في حد ذاتها والفجوة العميقة بين النص المكتوب أو المقروء والقارئ أو المتلقي، أُهدر حبر غزير لا يزال يسيل حتى اليوم. وفي النتيجة، سقطت نظرية فوكوياما في مزبلة التاريخ الذي كان أعلن وصوله الى نهاياته المحتومة، ولم يتمكن دريدا من الارتقاء بفكره الى مستوى النظرية التي كان أحجم في الأساس عن التطرق اليها. تبخر فوكوياما في غياهب التاريخ، وبقيت أفكار دريدا منهجاً محتملاً على الأغلب لقراءة التاريخ بعد أن شكك في الصميم بكل المسلمات والقناعات.
كان الصراع الفكري بين فوكوياما ودريدا يتمثل في ان الاول اعطى اهمية لدور اللغة في احداث التقارب الجمعي للبشر، وا ن كانت تعترضها العراقيل في توضيح شكل هذا التقارب، وان لمنظومة القيم دور فاعل في تكوين حضارة امريكا ، في حين يرى فوكوياما ان التريخ انتهى عند رغبة امريكا في قيادة العالم منذ ان سحقت خصمها الشيوعي الاتحاد السوفيتي السابق بعد ان اقعدته على ركبته، وان العالم الرأسمالي هو الذي انتصر في النهاية، وانه لن تظهر بعد الان حركات فكرية تفسر حركة التاريخ او تعرقل وصول امريكا في تحقيق حلمها بالسيطرة على العالم.
ولو امعنا النظر في افكار ورؤى وتجليات الفكر لدى فلاسفة اميركا قبل عقود من السنين لرأينا انهما وان اختلفا بشأن مسارات التاريخ ، الا ان لكل واحد وجهات نظر تخدم خطط امريكا نفسها في فرض وصايتها على العالم..فالاول الذي يعطي اهمية للعامل التكويني للغة المشتركة في بلورة حضارة امريكا واختلاط شعوبها وارسائهم لقيم جديدة للعالم يخدم اهدافها القومية في الاستحواذ الغربي ، يعود الاخر ليعترف بلا اخلاقية السياسة الاميركية التي لابد وان ترغم مسارات التاريخ لكي تلوي ذراعه، باتجاه تحقيق المصالح الاميركية ، بعيدا عن الفلسفات القيمية والاعتبارية الاخرى، وان قوة اقتصاد اميركا وشنها الحروب على العالم واخضاع دوله لهيمنتها يبقى الشغل الشاغل في تفكير اغلب من وضعوا أسس التفكير اللامنطقي الاميركي، حتى تكرست كل هذه الغطرسة التي نراها اليوم في استعباد العالم وفي توفير الذرائع والمسوغات الفكرية التي تخدم حلم امريكا في ابتلاع العالم وفرض هيمنتها المطلقة عليه وهو ما يجري اليوم، وما الحروب التي تشنها امريكا تحت مببررات مختلفة واخرها حربها ضد داعش العدو الوهمي لامريكا، الا وسيلة للحفاظ على مبدأ تكريس الهيمنة تحت مبرر مواجهة التحدي للحضارة الاميركية والغربية عموما، في وقت يرى الغرب ان هرولته وراء امريكا امر منطقي كونها الحامية لمصالحه، فهي ان وقفت ضدها ربما لاتجد من يساعدها على مقومات البقاء، ولهذا فهي تساير الرغبة الاميركية وفقا مقولة ( مكره أحاك لابطل ) والعاقل يفهم!!