22 ديسمبر، 2024 11:02 م

عمالة حرام وعمالة حلال

عمالة حرام وعمالة حلال

ما يحدث في العراق لم يحدث مثلُه في أكثر بلدان العالم المسمى بالعالم الثالث فقرا وأمية وتخلفا وفسادا، ليس في عصرنا الحالي وحسب بل في عشرات السنين.

ففي كل يوم عندنا فضيحة لو حدثت واحدة منها فقط في دولة آخرى يحترم شعبُها نفسه وكرامته وتاريخه لأسقطت عروشا وحكومات، ولاستقال أو أقيل بسببها رؤساء جمهورية ورؤساء وزارات ووزراء. أما عندنا فلا أحد يستقيل، ولا أحد يحال إلى قضاء،بل يكافأ بوظيفة أعلى من وظيفته السابقة وأكثر سمنا وعسلا ووجاهة.

فوزير مالية طرده البرلمان، بكل عيوبه وعوراته وسوءاته، لسوء سلوكه وعدم أمانته وفساد وطنيته يرشحه سياسيو محاصصة بول بريمر لمنصب رئيس الجمهورية، وقد ينالها مثلما ناله قبله رؤساء لا يستحق أحدهم أن يرعى عنزتين.

وواحد آخر اشتهر بعمالته الرسمية لإيران يرفض التدخل الأمريكي في تشكيل الحكومة، ويقول: “لا خير في حكومة فيها تدخل خارجي”، ثم يرسل مئات من محازبيه ليتظاهروا أمام السفارة الأمريكية احتجاجا على تدخلها في تشكيل الكتلة الأكبر والحكومة المقبلة، ولا يتظاهرون أمام السفارة الإيرانية، ولا على مدخل إقامة سليماني في بغداد. يعني أن العمالة نوعان، عمالة حلال وعمالة حرام.

وآخر، رئيس مليشيا متشدد جدا في طائفيته ومجاهر بإرهابه ومتباهٍ بعمالته بإيران يعترف للأمريكان حين كان معتقلا لديهم عام 2007 في محضر رُفعت عنه السرية ونشرته صحيفة وول ستريت جورنال بأنه ومقتدى الصدر ممولان ومعتمدان رسميا من قبل إيران، وهو اليوم أحد القادة الفاعلين على الساحة السياسية، وثالث ثلاثة يعلمون معا في تكتل نيابي تحت إمرة قاسم سليماني، ويحلمون بتشكيل الكتلة الأكبر والحكومة القادمة، ثم لا تسأله رئاسة جمهورية ولا رئاسة وزراء ولا وزارة عدل ولا مدع ٍعام ولا قضاء عن حقيقة هذه الاعترافات التي هي، بكل الاعتبارات المقاييس، خيانة عظمى من الوزن الثقيل.

ورئيس وزراء ظل محتضنا مستشارَه للأمن القومي ورئيس هيئة الحشد الشعبي طيلة سنوات حكمه، ثم ضمه أخيرا لكتلته النيابية، رغم أنه متهم بأكثر من تهمة بفساد واستغلال وظيفة وتخابر مع دولة أجنبية، فيطرده فجأة من جميع وظائفه ومن كتلته لأنه تمرد عليه وأراد التحالف مع خصومه وحساده ومنافسيه.

دولة بلا حكومة، وحكومة بلا دولة. فأمنها غير مستتب، والخدمات، في جميع عهودها، في أدنى وأفقر مستوياتها، والاختلاسات والتجاوزات والانتهاكات لكرامة المواطن وأمنه ورزقه لا تنتهي، وسبعة ملايين عراقي تحت خط الفقر، وأطفالٌ، بالملايين، دون مدارس، هائمون في الشوارع مع الكلاب السائبة، وملايين الفلاحين دون مياه شرب، ودون صحة ولا دواء، وعمالنا العاطلون عن العمل تغص بهم مقاهي الوطن الحزينة وأرصفة شوارعه المحطمة، والمُهجَرون والمهاجرون يكابدون ويصارعون من أجل لقمة عيش في حارات دمشق وعمان وأنقرة والقاهرة وأثينا وبيروت بلا أمل في عودة أو معين،  وعلماؤنا وخبراؤنا وشعراؤنا وكتابنا وفنانونا متناثرون في أرجاء الدنيا الواسعة يمنحون دول العالم الأخرى عصارة خبراتهم ونتاج عبقرياتهم النادرة التي كلفت شعبنا الكثير،وسفاراتـُـنا مرابعُ لإخوة الرئيس والوزير والنائب وأصهاره وأبناء أعمامه وأخواله، ومراكز ارتزاق وبذخ وفجور، وبعد أن كانوا جياعا بالأمس يعيشون على فـُـتات معونات دول اللجوء، أصبحوا اليوم أصحاب عمارات شاهقة في لندن وعمان وبيروت ومصر ودمشق ودبي، وطائراتٍ خاصة يتنقلون بها من عاصمة إلى أخرى.، ويغرقون بناتهم بذهب لو وزع على فقراء الوطن لأشبع منهم كثيرين، وما خفي أعظم.

وفي العراق وحده تتجول السفارتان الأمريكية والإيرانية، وسفارات عديدة أخرى، بين السياسيين المتنافسين على المناصب والرواتب والمكاسب دون رقيب ولا حسيب، وتشتري منهم من تشاء.

وكما أن السياسيين الشيعة يلطمون ويبكون على حسينهم الذي صنعوه لأنفسهم، وعلى مقاس مصالحهم الشخصية وأمراضهم النفسية والخلقية ليُحل لهم النصب والاحتيال والاختلاس والظلم والقسوة والخيانة والعمالة لإيران، ففي الطائفة السنية أيضا لطامون وبكاؤون وندابون جعلوا مصائب طائفتهم قميص عثمانهم الذي يستر عشقهم المرَضي الجنوني للسلطة والمال والوجاهة بأي ثمن تجيء حتى لو عملوا خدماً أذلاء تحت إمرة واحدٍ تافهٍ وأمي وغبي ومنافق وكاذب وغدار وحاقد على العراق والعراقيين مكلف بالملف العراقي في مخابرات هذه أو تلك من الدول الشقيقة والصديقة.

وفي الشعب العراقي الكردي أيضا سياسيون من نفس الطينة يلطمون على حقوق شعبهم زورا ورياءً ونفاقا، ويكسبون ببكائهم عليها أرزاقَهم وأرزاق أولادهم وإخوتهم وأبناء عشائرهم، ثم يُفقرون مواطنيهم ويذلونهم، ويدمرون حياتهم لأجيال عديدة قادمة.

وكل هذا يجري في العراق منذ أن شهدنا مسرحية نقل السيادة من بول بريمر إلى أعضاء مجلس الحكم المشؤوم، وشعبنا العراقي صامت يتفرج ولا يثور ولا يرمي بكل حكامه الفاسدين في أقرب حاوية قمامة مثما فعلت شعوب أخرى عديدة.

وبقدر ما يستحق السياسيون العراقيون، كافةً وبجدارة، صفة السقوط الأخلاقي والوطني والإنساني فإن من العدل والإنصاف، أيضا، أن نُحمل شعبَ العراقي نصيبَه الأكبر من ذلك السقوط.