في بلد أنهكته الانقلابات والنزاعات الطائفية والتجاذبات السياسية منذ تأسيسه الحديث، برزت شخصيات حاولت بناء مشروع وطني جامع، وكان من بينها السيد عمار الحكيم، الذي يصرّ على أن استقرار العراق لا يمكن تحقيقه إلا بإنصاف الأغلبية الشيعية التي تعرّضت للتهميش طوال أكثر من ثمانية عقود، مع الحفاظ على حقوق المكونات الأخرى وفقًا لحجمها ومكانتها في المجتمع العراقي.
ينحدر عمار الحكيم من عائلة دينية وسياسية دفعت ثمنًا باهظًا في مواجهة الاستبداد، بدءًا من مقاومة الحكم الملكي، مرورًا بصدام حسين، وصولًا إلى ما بعد عام 2003. ومنذ سقوط النظام السابق، شارك الحكيم بفعالية في تأسيس النظام السياسي الجديد، وكان له دور بارز في صياغة الدستور العراقي، وإنشاء مؤسسات العدالة الانتقالية وتعويض ضحايا الحقبة الديكتاتورية، إضافة إلى مبادرات تنموية متعددة.
لم يكن وجوده في العملية السياسية شكليًا، بل كان أحد العقول المؤسسة للمنظومة السياسية الجديدة، ساعيًا إلى موازنة بين التمثيل الشعبي وحقوق الدولة، وبين الشراكة السياسية ووحدة القرار الوطني.
في يونيو 2014، ومع اجتياح تنظيم داعش لمدينة الموصل ومناطق واسعة من العراق، كان موقف عمار الحكيم حاسمًا وسريعًا. إذ ظهر بزيه العسكري وأعلن التعبئة، مرددًا عبارته التي أصبحت شعارًا في مواجهة الإرهاب: “ستكون لنا صولة مع داعش كصولة عمّنا العباس”. لم تكن تلك الكلمات استعراضية، بل تبعتها خطوات عملية، حيث أسهم بتأسيس خمسة ألوية مقاتلة ضمن فصائل المقاومة، شكّلت القوة الثانية بعد منظمة بدر، وساهمت في وقف تمدد التنظيم.
كما كان من أوائل المدافعين عن تشريع قانون الحشد الشعبي، لضمان شرعية قانونية للمقاتلين، تحفظ حقوقهم وتمنحهم غطاءً مؤسساتيًا يحصّنهم من التقلبات السياسية.
ورغم تمسكه بخطاب وسطي، وتفضيله نهج الحوار على التصعيد، فإن عمار الحكيم لا يتردد في الحزم حين يتطلب الموقف ذلك. ففي عام 2019، حين تصاعدت الخلافات السياسية حول حكومة عادل عبد المهدي، أعلن معارضته الصريحة لأداء الحكومة، رغم قربه السابق منها. هذا الموقف جلب له ضغوطًا سياسية وتهديدات علنية، بعضها ذهب حد التلويح بالملاحقة القضائية.
في مواجهة ذلك، أطلق الحكيم صرخته الأشهر: “دفعنا 63 شهيدًا ولن نرضخ.. ألا تعرفون أننا لا نرضخ؟”، في تعبير مباشر عن رفضه الابتزاز السياسي وتمسكه بثوابته، حتى في أصعب الظروف.
لا يؤمن عمار الحكيم بسياسة الكسر أو المواجهة العبثية، ويرى أن الظلم، مهما طال، لا يمكن أن يكون أساسًا لبناء دولة. كما يؤمن أن الإنسان مكلف بالعمل لا بالنتائج، وأن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء. هذه الفلسفة الروحية تنعكس في سلوكه السياسي، حيث يسعى لتحقيق الإنجازات عبر المؤسسات لا عبر الشعارات.
ورغم أن بعضهم يصفه بأنه “شيعي حتى العظم”، إلا أن خطابه وسلوكه السياسيين يتسمان بـالاعتدال والوسطية والحرص على الشراكة الوطنية. ولعل واحدة من مشكلاته الجوهرية، بحسب مقربين منه، أن الكثير من أنصاره ومحيطه لا يجيدون قراءته أو تسويق رؤيته بالشكل الصحيح.
لا يسعى الحكيم، كما يقول دائمًا، إلى مكاسب ظرفية أو شعبوية، بل إلى مشروع دولة خدمية توفر الكرامة والعدالة لمواطنيها. وبينما يتعرض لحملات تشويه متواصلة، يواصل أداءه السياسي، متمسكًا بالعمل الميداني والتواصل الجماهيري، ومؤمنًا أن بناء الدولة مهمة تحتاج إلى صبر طويل، وتضحيات قد لا يُكافأ صاحبها.
لقد أرهقت مهمة البناء السياسي عمار الحكيم، لكنها لم تُثنه. يعطي بلا كلل، ويتحرك بلا ضجيج، ويسير بخطى هادئة نحو كتابة تاريخ لا يدين له سوى للحق والناس.