مستضعفون هاربون نحو مرفأ العدالة، أيتام يقرعون طبول الفراق والحزن، حاملين اللبن لأبيهم لعله يشرب لأخر مرة، نوائح يتبعها صوائح، باب يرتعد خوفاً ووجعاً على رحيل ركن الهدى، ساعات فجر تمشي قلقة مرتعبة، من صباح الحادي والعشرين، رغم أن أمير المؤمنين كان مستبشراً بهذا اليوم، الذي قرن بليلة القدر المباركة، مردداً تلك المقولة: هي والله الليلة التي وعدني بها ابن عمي، وحبيبي ونبيّ رسول الله.
سجل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وثيقة مفردة متفردة بكل شيء، يمكن العثور فيها على معاني الإنسانية، والعدل، والحكمة، وغيرها من المكارم والفضائل، التي ذكرها الأعداء قبل الأصدقاء، إنه محفل أسطوري، تدور حوله جذور الدين وأحكام الإسلام، يعذب نفسه بصمت الكلام، من كثرة ورعه، وزهده، وتواضعه، فالملح، واللبن، والخبز يتكلم عن قصة، ولو كان بهم خصاصة، والتصدق بخاتمه اثناء الركوع لفقير يخاطبه.
لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار، تبدأ حياته بين فداء ومنام، ودفاع مستميت عن الرسالة الإسلامية، وحاملها نبي الرحمة (صلواته تعالى عليه وعلى آله)، صاحب ورقة إصلاحية عابرة للمحاصصة، المسلم والمسيحي والنصراني بمستوى واحد، تجتمع حوله أصوات الطفولة اليتيمة، وألم المساكين، وأنين عابري السبيل، صوت مقدام للعدالة الإنسانية، قراراته منتجة نابعة من عقل حكيم، فيعرف الحر مع مَنْ يكون، إنه مع علي.
كثيرة هي المؤلفات التي ظهرت للحياة، لتتحدث بشموخ عن سيرة الإمام علي (عليه السلام) والعبارات والأقوال عظيمة، لتكتب بأحرف من نور حول شخصيته الفذة، فيا ترى أي منها نذكر؟ ولأي الأمور نضج ونبكي؟ لظلامة إبن عمه المصطفى يوم تركوا وصيته؟ أم لمظلومية زوجه البتول (عليها السلام) يوم أسقطوا جنينها؟ أم لغصب الأمة المخالفة لحقه في الخلافة؟ أم لما سيجري على ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام)؟جراح أهل البيت عليهم (السلام) لا تندمل، فالقضية تتمركز حول بغض علي، من قبل صعاليك الجاهلية وذؤبانها، الذين إقتص منهم أسد الله الغالب في معارك بدر وحنين، وحطم جبروتهم نصرة للدين الجديد، ودفاعاً عن الإسلام، فهو يعشق حالة الذوبان في حب الخالق (عز وجل)، لذا لم نجد في التأريخ وثيقة ناطقة بالإخلاص، والشجاعة، والعدالة بعد رسول الله، سوى الكرار علي بن ابي طالب (عليهما السلام).