يلتقي التاريخان الهجري والميلادي.. هذا العام، عند وفاة زين العابدين.. علي السجاد، يوم 25 محرم 1442 و25 آب 2020 وهو رابع الأئمة المعصومين.. ولد يوم 5 شعبان 38 هـ في المدينة المنورة وتوفي فيها.
برغم قسوة ما عاناه.. عليه السلام، إلا أنه عاش فقيها عالما متسامحا عنوان ثبات لا تهزه وقائع الفترة التي خاضها مكتظة بأحداث جسيمة، منها واقعة “الطف” وقد كابدها عليلا.. عاجزا عن القتال.. يرى أباه وأعمامه وإخوته وصحبهم يستشهدون دفاعا عن الحق بسيف الباطل.
حدث كهذا من شأنه خلق لوثة شخصية وإنهيار إيماني وإنكسار إجتماعي، لدى من يعيشه.. حاشى للإمام علي زين العابدين، إلا أنه شكل ثابتا محوريا في التوازن، إبان مرحلة ملغومة بإشكالات ملتبسة تداخلت فيها السياسة بالانفلات الديني والإقتصاد والصراعات الفئوية داخل المجتمع الاسلامي الذي ينوء بآثار واقعة الطف وما أعقبها، حيث قامت ثورتا التوابين والمختار وما تبعهما من إحتقان ربض خلاله المجتمع الأموي على فوهة بركان تتربص بأمنه ودينه ومعيشته… تتهدده مخاطر خارجية تتسرب الى جوهر الخلافة حينها.
في ظل تلك الأحداث مكث السجاد متماسكا، لم يشغله الثأر لعائلته التي أبيد رجالها وأخذت نساؤها سبايا والأطفال ظامئون، فلم يخضع نفسيا لقسوة ما مر به في كربلاء، بل تجرد من آثارها متسامحا مع الناس رحوما بالفقراء رؤوفا بالضعفاء واضح الرؤى لم تتضبب بصيرته جراء ظلم الأمويين، بل تمسك بمقومات الرسالة فقها وسلوكا.
ذكرى وفاة السجاد.. عليه السلام، الجمعة المقبلة، مناسبة لإستحضار مآثره؛ كي يقتديه المعاصرون، إذ لم ينتظم في تشكيل سياسي للثأر من الأمويين قتلة أبيه ومغتصبي الخلافة، بل عاش.. عليه السلام في المدينة المنورة، ناذرا علمه للفقه.. يعيش بسلام، عاطفا على الفقراء، الذين يجدون رزق يومهم عند ابواب البيوت ولم يعرفوا أنها من عطايا زين العابدين، إلا عند إنقطاعها بوفاته.. رحمه الله.
بل تسبب خادمه بقتل إبنه.. سهوا.. وسامحه متطامنا مع قضاء الله.. إنه رجل أقوى من قدره، شكل مفصلا إيمانيا مهما في تاريخ الإسلام؛ إذ تواصلت العصمة الإثني عشرية، بشخص السجاد، نزولا من علي بن ابي طالب والحسن والحسين.. عبره.. الى محمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري والحجة محمد المهدي.. تباعا.
لم تنعطف معركة كربلاء بمنهجه الإيماني؛ وقد حضر فيها مقتل أبيه وإغتصاب الخلافة.
من آثاره الصحيفة السجادية التي تلي نهج بلاغة جده علي بن أبي طالب.. عليه السلام، وله ديوان شعري لم يحسم النقاد نسبته إليه… تاركا مصحفا قرآنيا بخط يده، محفوظ حاليا في متحف العتبة الحسينية.
لم يدخر وسعا في الوطنية، برغم ثأره الموتور كامنا؛ إذ سك النقود الأموية؛ حين خذلهم الرومان وأرادوا لوي يد الدولة لمصلحتهم، فالدولة الرومانية كانت تستأثر بسك النقود لحضارات العالم آنذاك، وإختلفت مع الأمويين فأحرجتهم لعدم قدرتهم على تصنيع العملة، معتمدين الرومان في تغطية العجز، إلا أن السجاد بعلمه الموحى به من الله الى رسول العزة.. متوارثا العصمة إماما عن إمام، أنشأ للأمويين ورش تصنيع النقود “سكها” محيدا موقفه لصالح الأمة!
أية عظمة تلك التي يتحلى بها.. معصوما عن الضغائن عندما يستلزم الموقف الوطني ترجيح المصلحة على الثأر.. والحسين ثار الله.
خاف الأمويون وجوده، وهو مسالم أعزل، بينما عرشهم مدجج بالسلاح والجنود، إذ قال الوليد بن عبد الملك: “لا راحة لي، وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا” فبعث سماً إلى عامله على يثرب، وأمره بدسه للإمام؛ فإستشهد، ودُفن في البقيع مع عمه الإمام الحسن، بقرب مدفن العباس بن عبد المطلب.
إيمانا برسالة آل البيت.. هداة الأمة، سفح الفرزدق مكارم هشام بن عبد الملك، متصديا للرد على إشارته الى السجاد: “من هذا؟” منشدا: “هذا الذي تعرف البطحاء وطأته.. والبيت يعرفه والحل والحرم.. هذا إبن خير عباد الله كلهم.. هذا التقي النقي الطاهر العلم.. ما قال: لا.. قط إلا في تشهده.. لو لا الشهادة كانت لاؤه نعم.. وما قولك: مَنْ هذا؟ بضائره.. العرب تعرف من أنكرت والعجم”.
سلام على زين العابدين علي السجاد بين الحسين بن علي بن أبي طالب.. وعلى أبيه وجده والأئمة من ذريته.. عنوان الإسلام المتسامح.. إيمانا وعدالة.. سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.