لم يكن مستغرباً أن تُبنى العلاقة بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية على التخويف والتخوين، ولقد تجلى ذلك في أسوء صوره، باختيار الأمريكان للأسوء من التراث الأدبي والثقافي والإجتماعي الغني للعراق، فلم يجد الجندي الأمريكي في أول محاولة تماس مباشر له مع المواطن العراقي بعد 9 نيسان 2003 غير نموذج (علي بابا) لينعت به العراقيين، وكأنها كلمة السر التي ستفتح له كل الأبواب المغلقة، وقننت ماستكون عليه العلاقة مع هذا الشعب، لتكون علاقة مافيوية، ولم تلتقط من تأريخ العراق العميق والمشرّف، غير تلك اللحظة الشاذة من تأريخه، التي تحوّلت فيها البلاد إلى ساحة غنائم وأسلاب، بعد أن سقط الوطن بيد المواطن قبل أن تجتاحه قوات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
بالمقابل فإن الجانب السلبي للشخصية العراقية قد فرض حضوره بشدة في ذلك اليوم وما تلاه من أيام، ذلك الجانب الذي أشار إليه عالم الإجتماع والمؤرخ العراقي علي الوردي في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي حيث يقول “لعلني لا أغالي اذا قلت أن الشعب العراقي في مرحلته الراهنة هو من أكثر شعوب العالم، إن لم يكن أكثرها، ولعاً بالسياسة وانهماكا فيها. فكل فرد فيه تقريباً هو رجل سياسة من الطراز الأول. فأنت لاتكاد تتحدث إلى بقال أوعطار حتى تجده يزن لك بضاعة وهو يحاورك في السياسة أو يسألك عنها. وقد يحمل لك الحمال البضاعة فيحاول في الطريق أن يجرك إلى الحديث في السياسة، وهو يزعم أنه لو تسلم مقاليد الأمور لأصلح نظام الحكم بضربة واحدة.الواقع أن هذا الإنهماك الشديد في السياسة لم يكن موجوداً في بداية هذا القرن.فقد كان الناس يتبعون إزاء الأحداث السياسية مبدأ(أنا شعلية)،ومعناه أن الأمر لايهمني وليس لي دخل فيه. وكان الأب يوصي إبنه أن يتعلم مهنة يكسب منها عيشه وأن يبتعد عن السياسة إذ هي (لا تعطي خبزاً)”.
في يوم 9نيسان 2003 لم تسقط الدكتاورية لوحدها في العراق، بل وسقطت معها آخر أوراق التوت عن الجسد العراقي، ليبدو عارياً وهشاً ومستباحاً كما لم يكن من قبل، فلقد برز في ذلك اليوم وبوضوح مبدأ(أنا شعلية)، وتجسد بالغ التجسيد بالسلوك الشاذ والمنحرف، لفئة من العراقيين تصورت أن كل ما يضمه الوطن ويحتويه ملكاً مشاعاً لطاغية العراق صدام، ويجب التخلص منه وتدميره.
فهذه الشخصية التي قلبت التوقعات في واحدة من التجليات الفريدة للعطاء العراقي أبان ثورة العشرين، والتي قدمت النموذج المثالي في التلاقح النقي بين الوطن والمواطنة، بعد مخاض عسير مع سلطة الإحتلال البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الأولى(1914 -1918 ) والسنوات اللاحقة للإحتلال حتى 30حزيران1920يوم انطلاق الثورة المباركة، والتي جعلت العراقييّن ولأول مرة وجهاً لوجه أمام حالة غزو استعماري حديث لم يكن يمتلك من مبررات الغزو غير دالة التحرير لا الفتح في المقولة الشهيرة للجنرال مود “جئنا محررين لافاتحين”. والتي لم تكن غير شماعة وضع عليها البريطانيون كل تبعة الإحتلال البريطاني للعراق، تلك التجربة أشرت على إمكانية استنهاض المخبوء من قيّم وهمم العراقييّن، شرط توفر النوايا
الحسنة والقيادة الجامعة المؤلفة للقلوب من دون الإلتفات إلى المصالح الفئوية، لكن هذه الشخصية بدل أن تستثمر نتائج الثورة بالطريقة التي تجعلها مؤهلة للإمساك بزمام المبادرة لتقديم تجربة إنسانية وديمقراطية متيمزة في المنطقة، أسلمت قيادها لعقود من السنين ومنذ العام 1921 لطغمة (توليتارية – برجوازية) وجدت المجال الرحب في هذا الإنكفاء النفسي لتفرض سياساتها الشخصية والعشائرية والحزبية التي كانت بعيدة كل البعد عن الواقع العراقي، فكانت التجارب الواحدة بعد الأخرى ترسخ لقيم اللامبالات واللاوطنية والإنتماءات الضيقة لهذه الطائفة أو ذاك الحزب أو تلك القومية.
وكان (علي بابا) بنسخته العراقية خلال كل هذه المراحل التأريخية التي مرَّ بها العراق منذ العام 1914 وحتى نيسان 2003 كامن في اللاوعي العراقي، وكان يحلو له بين الفينة والأخرى أن يطل بفرسه وعصابته، حين تتحين له الفرصة لذلك وبشكل محدود، حدث ذلك خلال حركة مايس 1941 في المواجهة الثانية بين العراقيين والإحتلال البريطاني، حين خلت بغداد من شرعية مؤسسات الدولة وتحوّلت إلى مؤسسات ثورية تقودها الأهواء والعواطف. وسميت في حينها (الفرهود) وحدثت مرة أخرى في الأيام الأولى من ثورة 14 تموز 1958 بعد سقوط النظام الملكي، حيث هُوجم قصرالرحاب الملكي من قبل الثائرين والناقمين على الحكم الملكي ونهبت كل محتوياته على مرأى ومسمع من الجند والشرطة المكلفين بحماية القصر، لكن (علي بابا) يوم 9نيسان 2003 أطل علينا بنسخة لم يتعودها العراقييّن لا قديماً ولا حديثاً ولم يتوقع أحداً حدوثها بهذه الكيفية الغرائبية والبعيدة كل البعد عن روح المواطنة والإنتماء الوطني، لشعب أُعتبر واحداً من الشعوب المتحضرة والمتقدمة في المنطقة، وهي النسخة الأمريكية ليمحو كل النسخ السابقة، وليقدم (علي بابا) وبطريقة هوليودية نادرة التكرار، وخلال أيام كنا نرى الجنود الأمريكيين وهم يمتطون ظهور دباباتهم يتفرجون على مشاهد السلب والنهب والإحراق لكل ما هو مؤسساتي ومدني في العراق، وكأن التأريخ يعود بنا قرون للوراء ليقدم لنا صفحات سوداء من الغزو المغولي لبغداد 1258 وما كان يجري حينها من عمليات استباحة همجية، أصابت كل مرافق الحياة ولم تستثني احداً حينها ولا مرفقاً حيث كانت البلاد كلها من أقصاها إلى اقصاها مستباحة وتتعرض للإستلاب والقتل والإباحة.
هكذا كان الجنود الأمريكان يقفون مكتوفي الأيدي يتفرجون على نبراس حضارة الشرق وهي تستباح وتنهب في أوجع مفاصلها حيث المتاحف ودور الفن والمؤسسات العلمية والمكتبات والمسارح، وكأنها حملة خُطط لها لتكون بهذا الشكل، وحين كان الشرفاء والمخلصين من المواطنين والموظفين يستنجدون بوحدات الجيش الأمريكي القريبة من أماكن الحدث لم يكن هناك من رد وإذا جاؤوا فإنهم يأتون متأخرين، حيث تكون عمليات النهب السرقة والتدمير قد تمت، كما حدث مع المتحف العراقي حين اتصل بهم المسؤول عن المتحف حينها الأستاذ الاثاري(دوني جورج )رحمه الله، بالقادة العسكرييّن القريبين من المتحف لمنع عمليات السطو والسرقة التي كان يتعرض لها المتحف، لكن لم يتحرك أحد لنجدته، حتى بعد أيام من انتهاء عمليات النهب، ليتم بعد ذلك جرد ما مجموعه حوالي ألف قطعة آثارية في أمريكا لوحدها حسب تقديرات الوكالات الأمريكية المهتمة بالمسروقات العراقية الاثارية، كذلك في البنوك والمصارف الوطنية والأهلية، التي تم التعرض لها وسرقة محتوياتها تحت اشراف القوات
الأمريكية بل وفي بعض الأحيان بمساعدتهم، لكن بعد أيام من مرور هذه الموجة الكارثية التي تركت آثارها لما بعد أكثر من عشر سنوات في الشارع العراقي، وضمير المخلصين من أبنائه، وانحسارها بدئنا نسمع من الجنود والضباط الأمريكان هذه النبرة القديمة الجديدة(علي بابا)، حيث تغيّرت الصورة وأصبح الجندي الأمريكي بدل أن يحمل العلم الأمريكي والعلم العراقي، إذا به يحمل السوط الغليظ، ويضرب به وجوه العراقيين وهو يصرخ بهم :علي بابا، فلقد نجحوا وبطريقة فنية ومخابراتية محترفة أن يبعثوا في نفوس الغالبية العظمى من العراقيين وللأسف روح (علي بابا)، النائمة منذ قرون من السنين في روح وعقول العراقيين، ومن ثم أعادوا تصدير هذه المفردة (الثيمة) لوسائل الإعلام و كأنها من نتاج الحضارة المحلية لهذا البلد و جزء لا يتجزأ من كيانه وبنيته الروحية، ولقد سجلوا في ذلك النجاح الكبير على مستوى الإعلام و الواقع النفسي للمواطن العراقي، حيث كانت وسائل الإعلام تتسابق لتسجيل تلك اللحظات التأريخية النادرة للغضب العراقي حين يصحو ويعبر عن نفسه بهذه الطريقة البائسة والسيئة، والذي أعمته لحظة لم يكن بالحسبان توقعها ألا وهي سقوط الطاغية وانتهاء عهده البغيض، والذي جثم على صدور العراقيين وغيّبهم لعقود من السنين وحوّل العراق إلى ضيعة شخصية، يحلو له أن يفعل بها مايشاء، وعلى وقع هذه الحقيقة الملتبسة كان التصرف غير المسؤول للكثير من العراقييّن. وكأن العراق لم يكن غير تراثاً للطاغية وأهله وعشيرته، ف(علي بابا) وإن كان صناعة تراثية وأدبية راقية للوعي العراقي المبدع خلال مراحل تطوره العلمي والأدبي والثقافي خلال عصور التنوير، فإنه تحول مع مجيء الأمريكان إلى قناعة راسخة في عقلية من يديرون الأمور بعد 2003 بالعراق سواءا كانوا أمريكان أو عراقيين بأن هذا الشعب لا يمكن له أن يقود من جديد أي مشروع حضاري ومدني ناضج.