23 ديسمبر، 2024 2:07 م

علي بابا واربعمائة الف حرامي

علي بابا واربعمائة الف حرامي

في مقابلة صحفية قديمة ، تروى الراقصة تحية كاريوكا إنها كانت في لبنان تحيي بعض الحفلات الراقصة ، وصادفت الموسيقار فريد الاطرش الذي كان يقضي اجازته هناك . سألها فريد إن كان لديها عمل تلك الليلة ، فأجابته إن لديها اجازة لبضعة ايام ، عندها عرض عليها فريد السفر معه الى جبل الدروز والتعرف على بيت الاطرش وعامة الدروز فوافقت .

علم اهل الجبل بقدوم الموسيقار الكبير الذي رفع اسم بيت الاطرش عالياً في مصر ، فتوافد الكثير من اقاربه واصدقائه لتحيته واستقباله ، بعدها بدأ فريد يعرف كاريوكا بمستقبليه ، الامير فلان الفلاني من بلدة كذا ، الامير علان العلاني من منطقة كيت ، الامير علتان الفلتاني من قرية كذا … وهكذا ، تقول كاريوكا :- التفت على فريد وانا مستغربة ، دول كلهم امراء امال الشـعب فين …؟؟ .

نرجع لنتسائل اليست هذه هي نفس مشكلة الشعب العراقي ؟؟ . الكل يريد الوصول للسلطة والثروة شبخاً وليس بصعود السلم باية باية حتى لو خرقوا الانظمة والقوانين والاعراف ، فلقد قدم لهم القائد المناضل عبود القدوة السيئة للوصول الى السلطة عبر العنف والقهر والغلبة ، وعندما جلس على الكرسي لم يكن يمتلك أية ثقافة او شهادة جامعية او خبرة بادارة شؤون الدولة ، وإنما سعى المنافقون لتلميع صورته في الصحافة والتلفزيون لأظهاره بصورة المحنك والخبير بشؤون الدولة ، ومادام قد فعلها عبود وجلب اقاربه واصدقائه الى بغداد وعينهم في مناصب ووظائف لايستحقونها حسب الانظمة الادارية المتبعة فلم لايفعلونها هم كذلك .

معظم العراقيين (حتى لو كانوا بلا علم او فهم او شهادة) يحلمون بالتوظف لدى دوائر الدولة ، لكي يحصلوا في آخر كل شهر على رواتب ثابتة من دون تعب ولا عرق ولا صخام وجه ، ومئات الالوف منهم يحلمون بالمناصب النيابية والوزارية والادارية ويتقاتلون بوحشية وشراسة عليها ، لكي يصبحوا من طبقة تنابلة السلطان أي اكل ومرعى وقلة صنعة ، في حين إن الدولة في الاصل ليست تكية دراويش توفر الطعام والمسكن للتافهين والعواطلية ، كما انها ليست جمعية خيرية لتوزع الوظائف على من هب ودب من اقارب واصدقاء السادة المسؤولين ، وكل وظيفة لدى مؤسسات الدولة ودوائرها بحاجة الى معرفة وشهادة وربما خبرة كذلك ، فكما قال المثل ( مو كل من صخم وجه كال أني حداد ) . 

منذ العهد الملكي سادت في الاوساط الشعبية والريفية فكرة خاطئة تماماً عن موظفي الدولة ، على انهم مجرد افندية متعجرفون يجلسون على مكاتبهم يشربون الشاي ويطالعون الصحف ، واحياناُ يراجعون بضعة اوراق ويشخبطون عليها ، وفي نهاية كل شهر يقبضون رواتباً ضخمة من دون تأدية أي عمل . نفس هذه الافكار السطحية سادت عن مهام البرلمان في الدول الديمقراطية ، على إنهم مجموعة من الحنقبازية اللغوجية الذين يقبضون رواتبهم على العركات المفتعلة بينهم والثرثرة ورفع الايدي  . هذه الافكار البدائية الساذجة هي التي اوصلتنا لما نحن عليه اليوم من فساد اداري وتسيب امني وعبوات ناسفة واغتيالات ، وذلك لأن موظفي الدولة السابقين منذ العهد الملكي والى نهاية عهد عبود ، كانوا يؤدون اعمالاً لايجيدها النجارون والحدادون وباعة اللبلبي والكبة ، وضباط جهاز المخابرات الذي كرهناهم ايام النظام السابق ، كانوا لايسمحون للنملة بعبور الحدود ، وقد اكتسبوا معرفة وخبرة عالية المستوى بعقلية التنظيمات الارهابية ، ولم يكن من المنطقي ابعادهم والمجئ بمضمد أو معلم أو حمال مع بضعة عمال مساطر أو فلاحين ليديروا الاجهزة الامنية ، فلكل مؤسسة وهيئة ومديرية اناسها المختصين بأعمالها ، وكما قال المثل (انطي الخبز لخبازته )  .

إن هذه الافكار الخاطئة عن مهمة الدولة وموظفيها استمرت لفترة طويلة سواء في العهد الملكي  أو العهود الجمهورية المتعاقبة ، ولحد اليوم لايدرك الكثير من الناس (ومن ضمنهم خريجو كليات) ، بأن مهمة الدولة هي خدمة الشعب والنهوض بالزراعة والصناعة والتعليم والصحة ، وبأن الراتب الذي يقبضه أي موظف ابتداءً من الحارس والفراش الى رئيس الجمهورية هو مقابل العمل الذي يؤديه خدمة للدولة وللشعب التي ترعى مصالحه  ، وتتعمد معظم دول العالم المتحضر أن تخفض رواتب النواب واعضاء المجالس المحلية او تجعلها اما مقاربة لرواتب كبار الموظفين أو اعلى منهم بنسبة عشرة بالمائة (مثلاً) ، وذلك لأن مقاعد هذه المجالس معدة لأناس مستعدين للتضحية بوقتهم وجهدهم ورواتبهم او مواردهم المالية من اجل خدمة الناس ، فالمنصب هو للخدمة وليس للأبهة والهيبة كما يظن معظم العراقيين .

*****

في مطلع القرن العشرين كان العراق جزءاً من الامبراطورية العثمانية ، وبسبب الحرب العالمية الاولى صار تحت الاحتلال البريطاني المباشر . وضعت عصبة الامم العراق تحت الانتداب البريطاني ، وقررت بريطانيا تحويل العراق الى دولة ملكية معاصرة ذات نظام برلماني ثابت ، وشرعت بسن الانظمة والقوانين الادارية والجنائية للدولة الحديثة ، لكن الدولة كانت بأمس الحاجة لعدد كبير من الموظفين والاداريين الجدد ، فعدد الموظفين الذين ورثهم العراق عن الدولة العثمانية كان قليلاً ، والكثير من ذوي الاصول التركية والشركسية عادوا الى وطنهم الام تركيا ، وهذا ما اجبر الدولة العراقية على فتح عدد كبير من المدارس ، والتوسع بقبول الطلبة في كلية الحقوق (كلية القانون حالياً) ، وهي الكلية الوحيدة التي ورثها العراق عن الدولة العثمانية .

قامت الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي بتأسيس المزيد من المدارس والمعاهد والكليات ، وارسال اعداد كبيرة من الطلبة الى الخارج لأكمال دراستهم الجامعية ، وعندما تأسست جامعة بغداد عام 1957 انضمت اليها كليات الحقوق والطب وطب الاسنان والصيدلة والهندسة والزراعة والآداب والتربية وكلية التجارة (الادارة والاقتصاد) واكاديمية الفنون الجميلة ومعهد العلوم الادارية ومعهد اللغات ومعهد المساحة ، فالعراق كان بلداً متحضراً متطوراً ولديه عدد كبير من الاطباء والصيادلة والمهندسين والاداريين ، وعاصمته كانت مليئة بالفنادق والعمارات ، والاف الكتب كانت تطبع وتباع في شارع المتنبي الذي كان ومازال قبلة المثقفين ، ولم يكن العراق بلد اميين او حفاة ليأتينا على اخر الزمن حافي ابن حافي من الارياف ويزعم إنهم عندما وصلوا الى السلطة عام 1968  ، لم يكن في بغداد سوى عمارتين وفندق .

انشأت الدولة العراقية الكليات من اجل تخريج طبقة موظفين مؤهلين لخدمتها ، وكانت الدولة تفرض على الطالب المتقدم الى كليات الطب وطب الاسنان والصيدلة والهندسة وبضعة كليات آخرى جلب كفيل ، و يوقع الطالب وكفيله على تعهد خطي بالخدمة في دوائر الدولة ومؤسساتها لمدة توازي ضعف سنوات الدراسة في الكلية ، وفي حالة عدم الخدمة فهنالك شرط جزائي على الكفيل بدفع مبلغ مالي مرتفع ، فالدولة لم تنشأ الكليات لوجه الله تعالى وابتغاء الاجر والثواب .

في عقد السبعينيات حصل توسع كبير في انشاء الكليات والمعاهد ، وساهم التعليم المجاني وتسهيل المناهج الدراسية في تخرج اعداد هائلة من الطلبة ، وتدنى المستوى التعليمي في الكليات الانسانية خاصة عن مستوى عقد الستينيات ، وذلك لرغبة نظام البعث بأغراق دوائر الدولة بأعداد كبيرة من الشباب ابناء الطبقات الشعبية والارياف ، وذلك لأن ابناء الطبقات الوسطى والعليا من الموظفين وخاصة من ابناء المدن لم يكونوا متعاونين او خاضعين لنظام حزب البعث ، وظهرت عيوب ومساوئ هذه السياسة قصيرة النظر في اواخر الثمانينات ، حين تبين وجود فائض من الموظفين الذين لم تكن دوائرهم بحاجة فعلية لهم .

إن سياسة حزب البعث والقائد المناضل عبود عادت مرة آخرى لتطفو على السطح بعد 2003 وبطريقة اسوأ بكثير ، فبدلاً من تعيين الخريجين القدامى من الكليات الاهلية والحكومية ، تم انشاء جامعات وكليات خيالية ذات مناهج لاتصلح لطلبة الصفوف المنتهية من الاعدادية ، وقبول اعداد هائلة من الطلبة الفاشلين في الحصول على مقعد في الكليات الحكومية فيها ، وذلك ليستطيع السادة المسؤولين واقاربهم من الحصول على شهادة بكالوريوس ، فمعظمهم لم يجتازوا امتحان البكالوريا للحصول على شهادة المتوسطة ، والسبب لا يعود الى عوامل اقتصادية او سياسية منعتهم من اكمال دراستهم ، وإنما لكونهم من صنف دي دي دي أي ( دجة دبنك دماغسيس ) ، ولهذا نسمع بين فترة وآخرى عن الكلية الفلانية او العلانية اجرت امتحان دور ثالث أو رابع ، في حين إن السادة المسؤوليين واقاربهم لن يتمكنوا من النجاح في اي امتحان بكالوريا للسادس الاعدادي يجرى في ظروف طبيعية ، ويروحون فدوة لأبو صابر فهو اكثر ذكاءً منهم .  

عندما اسست بريطانيا النظام الاداري للدوائر والمؤسسات العراقية انشأت معه مجلس الخدمة المدنية ، كانت مهمة هذا المجلس وضع ملاك اداري لكل دائرة بحيث لايزيد عدد الموظفين فيها عن حاجتها الفعلية ، وتشكيل لجان من كبار الموظفين لمقابلة المتقدمين للوظائف ، وتوزيعهم فيما بعد على وزارات الدولة ومديرياتها المختلفة في حالة نجاحهم في المقابلة .

كانوا يطلبون من المتقدم لأي وظيفة على الملاك الدائم ، الشهادة الدراسية مصدقة من المدرسة او الكلية ووزارة المعارف (التربية) ، وشهادة الخبرة العملية السابقة (إن كانت لديه) ، وشهادة حسن سمعة يأتي بها المتقدم من مختار المحلة ويوقع عليها اثنان من الوجهاء أو كبار السن في المحلة ، وشهادة عدم محكومية ، حيث يستخرج المتقدم شهادة من وزارة العدل تثبت إنه لم يحاكم امام المحاكم بتهمة مخلة بالشرف ، وقد الغيت هاتين الشهادتين في منتصف السبعينيات على ما اذكر ، ليس لتبسيط اجراءات التوظف وإنما لأن الكثيرين من اقارب واصدقاء المسؤولين الذين يتقدمون للوظائف الحكومية لم يكونوا يستطيعوا الحصول عليهما …!! ، وكانت الخطوة الاخيرة التي يتخذها مجلس الخدمة هي ارسال المتقدم للفحص الطبي لأثبات سلامته من الامراض السارية والمعدية .

استمر مجلس الخدمة المدنية بالعمل منذ تأسيس الدولة العراقية الى مطلع السبعينيات ، وعمل حزب البعث على تجريد المجلس من صلاحياته قبل الغاءه ، وذلك لأن شروط المجلس للتعيين في وظائف الدولة تتعارض بشكل كبير مع توجهات حزب البعث ، فصارت الوزارات والمديريات تعلن عن حاجتها للموظفين وتجري لهم المقابلة ، وكثيراً ماكان يتم شغل بعض الوظائف قبل الاعلان عنها أو التجاوز على شروط التعيين ، كأن يعيين خريج ثانوية تجارة بدلاً من خريج معهد ادارة أو يعيين شخص راسب في السادس الاعدادي بدلاً ممن اجتاز امتحان البكالوريا وحصل على شهادة الاعدادية ، ولكن بصفة عامة استمرت دوائر الدولة بالعمل حسب الانظمة واللوائح القديمة لحين وصول عبود الى قمة السلطة السياسية ، حيث شهد عقد الثمانينات والتسعينيات خروقاً كبيرة للأنظمة والقوانين الادارية المرعية .

بعد أن رحل عبود عن الحكم اكتشفنا إن القادمين الجدد كلهم عبابيد ، فالكل يريد تعيين اقاربه واصدقائه في مناصب ووظائف لايستحقونها قانوناً ولسان حالهم يقول : أي قابل المضمد فلان احسن من ابن عمي لو ابو الثلج احسن من ابن خالي ، وكلهم جلبوا اقربائهم واصدقائهم من المحافظات واسكنوهم بغداد ، وكلهم نهبوا اموال الخزينة ليصبحوا اثرياء وينسوا ايام الفقر والملابس المرقعة التي ارتدوها في طفولتهم ، وكلهم بنوا القصور لتنسيهم البيوت المعتمة في الازقة المهملة والصرايف التي كانوا يسكنونها ، اما الولايات المتحدة التي ساعدتهم وهيأت لهم قوانين انتخابية غير عادلة ، فكانت تريد الانتقام من الدولة العراقية وتحطيمها على ايديهم ، كأشارة واضحة لكل من المصريين والتوانسة واليمنيين بعدم خلع حكامهم وعدم طلب الديمقراطية .

الآن وبعد احد عشر عاماً من رحيل عبود ما الذي حصل عليه الشعب العراقي …؟؟ ، كنا محرومين من الستلايت والانترنيت والموبيلات فصرنا متخومين بها ونكاد نتقيأها ، كانت لدينا خمس او ست خطوط حمراء فصار لدينا اكثر من مائة خط احمر ، كانت لدينا ثلاث او اربع عمائم كبيرة فصار لدينا اكثر من خمسمائة عمامة ، كان لدينا جهة او ربما جهتين تعتقل الناس وتحاكمهم فصار لدينا خمسون منظمة جعلت من نفسها وصية على البلاد والعباد وتحاسب الناس على اقوالهم وافعالهم ، واخيراً كان لديناعلي بابا واربعين حرامي صار لدينا ثلاثمائة علي بابا واربعمائة الف حرامي ، والفضائيات العراقية تعرض علينا بمناسبة او بدون مناسبة ساحة كهرمانة كأنما يتسائلون عن غيبتها ، ولكن كهرمانة خطفها الامريكان واحتجزوها لكي لا تطبق العدالة والقانون وتنهي الفوضى الخلاقة التي جلبوها الينا .