عندما نحاول ان نستشف حقيقة ما يجري في مجتمع ما واستقراء المسارات التي يسير عليها أفراد ذلك المجتمع فليس هنالك أفضل وأجدى من ان يتجه الباحث للغوص عاموديا في طبقات ذلك المجتمع وصولا الى الفئة التي تسكن قاع الحياة ولم تنل حظاً وافراً من التعليم والثقافة . ان هذه الفئة تنطق بما يعتمل في نفسها بدون مكياج او تزويق لفظي . ان الاكتفاء بمحاورة الأكاديميين والمختصين ومن ثم وضع مسارات محددة لولادة فرضية جديدة قد ينطوي على خطورة من ناحية ان الانبهار بالخزين اللغوي والمعرفي الواسع للمختصين قد يعمي الباحث السائل عن رؤية حقيقة جانبية غير مرئية وقد يحرف البوصلة عن الاتجاه الذي ينبغي ان تشير اليه . هذا مع التسليم سلفا بأنه يجب استمزاج رأي المختصين والأكاديميين بماهية الحقائق الجديدة التي عثر عليها الباحث بجهده الشخصي لكي تولد النظرية الجديدة سليمة معافاة كاملة التكوين .
اسوق هذه المقدمة للإشارة الى رسالة طويلة نسبيا وردتني من أحد أصدقاء الفكر من بغداد وهذا الرجل الأكاديمي الجليل عودني على موضوعيته ودقته فيما يكتب وتثير كتاباته إعجابي حتى وان أختلف معي احيانا في رؤيتنا لموضوع ما . ورد في رسالته انه في أحد هذه الأيام من عام ٢٠١٥ تحدث مع أحد سائقي سيارات الأجرة في بغداد عن الوضع المعيشي العام في العراق فبدأ هذا السائق بالتذمر وكيل الاتهامات للحكومة بأنها لا تقدم ما يكفي من الإعانات الحكومية ومن انه يكدح ليل نهار لإعالة أطفاله الثمانية وبأنه لا يمتلك قطعة ارض الخ… وعندما أجابه صديقي بأنه هو من تسبب بتعاسة حاله كونه لو أنجب ثلاثة أطفال فقط لما احتاج الى العمل ساعات طويلة بنفسية محطمة ويتجرع مرارة الحياة في كل منعطف ،،، فغضب هذا السائق وأجاب بأنفعال ان الأطفال هم رزق من الله ولا يجوز الحديث عن تحديد النسل لانه حرام .
ثم يمضي صديقي بنقل محادثة اخرى مع سائق تكسي اخر وهو شاب متزوج من امرأتين وهو يبحث الان عن الثالثة وعندما سأله صديقي عن سبب هذا الهوس بأقتناء المزيد من الزوجات على الرغم من دخله القليل أجابه بالحرف الواحد ” اننا مجتمع عشائري وعندما أنجب بدون توقف من زوجاتي سأمتلك الكثير من الأولاد وسوف تكون لي هيبة في منطقتي وعشيرتي !!!
ثم عرض صديقي الموضوع على احد الأساتذة الجامعيين فأجاب بأن الدين يوصي بكثرة الإنجاب فلما استفزه صديقي سائلا هل الدين يعرف بأن هناك أزمة سكن في العراق منذ السبعينات عندما كانت نفوس العراق ثلث عددهم الحالي وهل يعلم ان مدارس العراق ومستوصفاته لا تكفي وان الخدمات متردية ومع ذلك يحث على الإنجاب … فلم يجب هذا الاستاذ الجامعي لان الحديث في المواضيع الدينية غير قابل للنقاش .
والعجيب الغريب الذي ورد في رسالة صديقي إضافة الى ما تقدم أعلاه ان هنالك جيش من العاطلين عن العمل في العراق ينتظرون بشكل او بآخر إعانات حكومية والمفاجأة الكبيرة انه هنالك في نفس الوقت الألوف من العمالة الآسيوية في العراق في قطاع المطاعم والخدمات والتنظيف .
لقد استفزتني هذه المعلومة الاخيرة الى الحد الذي دفعتني الى الاتصال هاتفيا بأحد أصدقائي في بغداد الذي اعلم مدى موضوعيته وتوازنه والاستفسار منه عن هذه النقطة بالذات فأيد ذلك وقال ان السبب في توظيف العمالة الآسيوية لان المقاول العراقي قد ضاق ذرعا ونفذ صبره من تملص العامل العراقي من ساعات العمل الرسمية وطلبه اعلى الأجور بأقل جهد ممكن والويل للمقاول او صاحب العمل اذا أختصم الطرفان إذ يبدأ العامل بالتلويح بتدخل عشيرته وأبناء عمومته !!!!
ان الحد الأقصى لمقياس ريختر الذي تقاس فيه قوة الهزات الأرضية هو تسع درجات حيث تنهار حينها تلك المنطقة بالكامل ،،،لذا يصطلح تشبيها على الشعوب والدول التي تعرضت الى كارثة عسكرية ووطنية واجتماعية هائلة انها تعرضت الى الدرجة التاسعة على مقياس ريختر للدمار المجتمعي اي بمستوى الزلزال المدمر الذي لا يبقي على شيء من الهيكل الاجتماعي والسياسي القديم .
ولدينا في العصر الحديث عدة أمثلة ولكني سأكتفي باثنين هما ألمانيا واليابان . كل من هذين البلدين خرج مهزوما قبل ٧٠ عاما في الحرب العالمية الثانية حيث انهارت العقيدة السياسية والعسكرية بالكامل وتم تدمير معظم البنية التحتية وتعرض البلدان الى الاحتلال العسكري المباشر . ان قوة الشعوب الحية تقاس بمدى إمكانيتها في نفض غبار المعركة والولوج فورا في حوار بنّاء مع الذات لنبذ الطريق الذي أدى بها الى هذه الهاوية والشروع فورا في صياغة عقد سياسي واجتماعي جديد بغية الاستفادة من مواردها المتبقية لغرض توظيفها والمضي للامام . ماهي الا سنوات قليلة بعد الهزيمة حتى نهض المارد الألماني والياباني يدهش البشرية بالإنجازات العلمية والاقتصادية وبمجتمع متآخي متجانس قل نظيره في العالم . من المضحك المبكي ان كلا من ألمانيا واليابان تعتبر قاعدة اقتصادية جبارة ولكنها لا تمتلك في باطن الارض أستكان واحد من النفط .
لنعد الان الى بداية المقال فأشير الى ان العلامة المرحوم الدكتور علي الوردي عندما وضع نظريته عن المجتمع العراقي واستخلص ان هنالك ازدواجية مخيفة بين البداوة والحضارة وبأن الدين غالبا ما يوظف لخدمة مسألة اجتماعية او سياسية ليست لها علاقة بجوهر الدين، كان ذلك في بداية الخمسينات من القرن الماضي. واليوم وبعد كل الأهوال التي مر بها المجتمع العراقي من حروب وحصار اقتصادي لم يسبق له مثيل لمدة ١٣ سنة ثم احتلال عسكري مباشر وبعدها تناحر طائفي ثم هزيمة جيش فضائي عرمرم بلع المليارات من الدولارات اثناء إنشائه وذلك امام شرذمة من أشرار داعش وسقوط محافظات كاملة أسيرة بأيديهم . كل هذه الهزات التي أصبحت خارج مقياس ريختر لم تفلح في زعزعة طابوقة واحدة من أساس البناء العراقي القائم على الازدواجية بين الحضارة والبداوة . مازال الانسان البسيط هناك يسعى للاقتران بزوجة ثالثة أملا في جيش من الأطفال ناقصي التعليم كي يزداد وجاهة في عشيرته. مازال هناك بعض الأساتذة الجامعيين يعتقدون ان الدين يحث على الإنجاب وانه لا يجوز مناقشة ذلك.. مازال الكثير يؤمن ان الرجل الحقيقي هو من كان وهاباً نهاباً اي بمعنى انه ينهب ولكنه كريم اليد يهب الاخرين بعضاً مما سرقه،، وان مال الدولة سائب ومن سرق منه ونجى فهو بطل مغوار . مازال الكثيرون يؤمنون ان الشاطر (اللوتي) هو من قبض الراتب بدون بذل أي جهد ممكن . هنالك نكتة على شكل رسالة نصية قصيرة يتم تداولها حاليا في الانترنت ،، مفادها:
خبر عاجل.. الشعب العراقي يطالب الشعب المصري الشقيق بالخروج بتظاهرة ضد السياسيين العراقيين لأنه مابي حيل .
آه كم أتمنى لو كان علي الوردي مازال حيا بيننا ليرى ان نظريته قد دخلت كروموسوم الخلية العراقية فلا فكاك منها ولاشفاء حتى لو أصابتنا كل أهوال الدنيا وحتى ان حضر ريختر بنفسه إلينا . أعتقد جازما انه كان سيتمنى لو بقيت علتنا مقتصرةً على ازدواجية الحضارة والبداوة فقط ولم نتلوث بالإيغال في الطائفية المقيتة ولم نطرد المسيحيين ونفجر كنائسهم ولم نعتدي على الايزيديين ونقتل رجالهم ونسبي نسائهم .
عزيزي القارىء الكريم لن اعلق اكثر بل سأتركك تتأمل مثلي هذا المشهد …. وتتألم .