لم يبلغ مفكر أو أكاديمي عراقي ذلك الشأو الذي تسامق إليه العالم الاجتماعي الراحل (علي الوردي) ، لجهة إثارة التشاكس السوسيولوجي والتشاكل الابستمولوجي والتخالف المنهجي ، بين جمهور الباحثين والكتاب فضلا”عن عموم المثقفين العراقيين ، حيال طبيعة المجتمع العراقي الملغز وتمظهرات شخصيته المطلسمة . ففي الوقت الذي استمرت فيه الغالبية العظمى من هؤلاء وأولئك ، ممن سحرتهم ملاحم تاريخ هذا المجتمع وخلبت ألبابهم أساطير سردياته ، وحالت ، من ثم ، مشاعر الحميّة الرومانسية وفنتازيا التصورات الطوباوية ، دونهم والإدراك الصائب لخصوصية تكوينه وفرادة طبعه وندرة شخصيته . يواجهون صعوبات جمة في العثور على النوابض الخفية والقوى العميقة ، التي يمكن اعتبارها العوامل المسؤولة عن تنميط وعي أفراده وتأطير سلوك جماعاته . فقد استطاع البروفسور (الوردي) – بعد أن خاض غمار الحياة البغدادية بكل مفارقاتها الواقعية وتصوراتها الأسطورية ، كما وخبر عن كثب أنماط علاقاتها الاجتماعية بكل أشكالها العفوية وأنماطها الصراعية – من إماطة اللثام عن الكثير من تلك الزوايا السوسيولوجية المهملة ، والكشف عن العديد من الرزايا الانثروبولوجية المطمورة ، وإزاحة الستار عن العديد من الخفايا السيكولوجية المنسية ، بحيث استحالت آراءه إلى ما يشبه حجرا”ألقي في بركة راكدة . فقدت إلى غير رجعة ثباتها المعروف وسكونها المألوف . ولأن عقل النخبة العراقية كان ولا يزال يفضل التعامل مع القضايا الظاهر والمباشرة بدلا”من المضمرة وغير المباشرة ، ويستسهل التعاطي مع المسائل الجزئية والسطحية بدلا”من الكلية والعميقة ، ويتوخى الانطلاق من العوامل الشائعة والمألوفة بدلا”من الغريبة والاستثنائية . فقد تشظت مواقفهم وتباينت ردود أفعالهم ، حيال أفكار(الوردي) وفرضياته الإشكالية ، إلى اتجاهات متباينة يكذب بعضها البعض تارة ، كما وانشطرت تصوراتهم إزاء تحليلاته وتأويلاته ، إلى تيارات متخالفة يكفّر بعضها البعض تارة أخرى ؛ فمنهم من أبدى إعجابه وأظهر تعاطفه مع كل ما توصل إليه من طروحات واستنتاجات بغثها وسمينها ، في حين أعلن آخرين رفضهم القاطع وشجبهم القاسي ، لمجمل ما تضمنه سستامه النظري والإجرائي من مفاهيم ومقولات جملة وتفصيلا”. وبالرغم من تصرّم عدة عقود على تلك الجلبة المعرفية والمنهجية التي أثارها ، إلاّ إن تنظيراته واستنتاجاته لا تزال محط أخذ وردّ على المستويين الشعبي والأكاديمي ، كما لو أنها صيغت الآن وطرحت لتوها . وهناك لغاية اليوم من يتحامل عليه ويتشاطر ضده بدعوى ؛ إن طريقته الأحادية بالغة التعسف في توصيف الشخصية العراقية ، فتحت الباب أمام كل من يروم التنطع لنقد محرماتها وتشنيع مقدساتها ، كما إن محاولته تنميط كينونتها ضمن صيغ مفاهيمية مستعارة من نظريات وسياقات غربية ، وضعته في مواجهة مستمرة مع أرباب السلطة الدينية والسياسية . هذا في حين ارتأى قسم آخر إن اللغة التي استخدمها في تأليف كتبه وإلقاء محاضراته ، كانت بسيطة وانطباعية لم ترقى إلى مستوى الكتابة العلمية ، فضلا”عن كونه أخفق في الذهاب شوط أبعد في قراءة الخارطة السوسيولوجية العراقية والتعمق في تحليل تضاريسها الانثروبولوجية . وكأنهم بذلك يلومونه على أسلوبه المباشر والصريح في طرح الإشكاليات الاجتماعية والنفسية ، ويعنفونه لرصد الأنماط السلوكية وتشخيص الانفعالات الوجدانية بصورة واضحة ومفهومة . بحيث استطاع أن يستقطب تأييد ومشاطرة الغالبية العظمى من عامة الناس ، فضلا”عن عدد كبير نسبيا”من خاصتهم لمضامين توجهاته وفرضياته . وذلك لأنها كان بمثابة المرآة الصادقة والأمنية التي عكست طبيعتهم الاجتماعية المعقدة التي يخشون البوح بها ، وأظهرت ما هو مخفي ومسكوت عنه من خصائص شخصيتهم الملتبسة التي يتجنبون الإفصاح عنها . والحقيقة إننا لم نسعى من خلال هذا الموضوع ، لإعادة قراءة طروحات وفرضيات (الوردي) حيال ما طرأ على بنية المجتمع العراقي ، من تغييرات شاملة وانزياحات عميقة وانقلابات مدوية – رغم أنها مقاربة راهنة ومغرية – في ضوء مستجدات ومعطيات الواقع الانطولوجي والسوسيولوجي الجديد ، إنما توخينا توظيف مصطلح (البدوقراطية) لمقاربة واحدة من تلك الفرضيات التي تضمنت واقعة ؛ إن ما يعانيه الفرد العراقي من ازدواج في نمط شخصيته ، إنما هو نتاج تعرضه لدينامية سوسيولوجية نوعية ، تتبلور على خلفية صراع قيمي متمرحل ومتعاقب ، بين (مد بدوي) مقترن بقيم رعوية وعلاقات تغالبية في مرحلة ما من جهة . يعقبه ، من جهة أخرى ، (مدّ حضاري) يشي بثقافة مدنية تعايشية في مرحلة لاحقة وبالعكس . أي بمعنى حدوث انقلاب جدلي داخل سيرورة هذه الظاهرة ، يتغير من خلالها مسار تلك الدورة ، من (جزر بدوي) يرافقه انحسار لمظاهر العنف في العلاقات والفوضى في التعاملات ، إلى (جزر حضاري) يعقبه انهيار متتالي في بنى الوعي وانساق الثقافة . ولعل من أبرز معالم الموجة الأولى ( المدّ البدوي) ؛ تعاظم مكانة ودور مكونات (المجتمع الأهلي) على حساب شأن ووظيفة (المجتمع السياسي) ، بحيث تشرأب الجماعات القبائلية والطوائفية والاقوامية ، لبسط سلطانها / هيمنتها ، وفرض قيمها / ثقافاتها ، وتسييد علاقاتها / أعرافها . مقابل اضمحلال تدريجي للتجمعات الحضرية / المدينية ، وتآكل منتظم لسلطة الدولة وتلاشي متدرج لسيادتها ، الأمر الذي يستتبع تصدع بنية الاجتماع المدني وتلاشي ثقافته العقلانية واندثار قيمه الإنسانية ، اثر تفعيل محركات التفكك الاجتماعي والتذرر الثقافي والتشظي القيمي والتبعثر النفسي . ولهذا فقد لاحظ (الوردي) انه ((خلال دراستي للمجتمع العراقي وجدت فيه ظاهرة اجتماعية كدن ألمحها فيه أينما توجهت في نواحيه المختلفة عبر الزمان والمكان ، وهي التي أسمبتها بظاهرة الصراع بين البداوة والحضارة)) ، مضيفا”ضمن نفس المصدر انه ((حين يدرس الباحث تاريخ العراق الاجتماعي ، منذ أقدم عصوره حتى عصرنا هذا ، يجد القيم البدوية تستفحل فيه حينا”ثم تتقلص عنه حينا”آخر ، وذلك تبعا”لوضع الدولة فيه من حيث ضعفها أو قوتها . إن الدولة أساس مهم من أسس الحضارة)) . والجدير ذكره إن مصطلح (البدوقراطية) المستخدم هنا ، ليس من بناة أفكارنا إنما يعود فضل اشتقاقه وصياغته إلى المفكر والأكاديمي اللبناني الدكتور (خليل أحمد خليل) ، الذي اختاره إن يكون عنوانا”فرعيا”لكتابه الموسوم : لماذا يخاف العرب الحداثة ؟ . معرفا”إياه كونه((حكم البداوة ، الحكم التراثي / التوريثي بعقلية بدوية ، بدائية ، تقوم على مزاج تعاركي وثقافة غزوية ، مقابل عقلية زراعية ، رعوية متخلفة ، ومتصلة بدرجة أقل بصناعات تقليدية ، تفكك المجتمعات العربية ذات التركيبات التناقضية (بدوية –حضرية معا”) التي تطمس أهداف كل خطوة إلى الأمام بالتراجع خطوات إلى الوراء ؛ وبذلك تشوه نماذج الدولة المقامة فيها منذ عدة عقود ، وحتى منذ عهد قريب ، ناهيك عن ظاهرة اللادولة)) . وإذا كان الأكاديمي المذكور قد استخدام ذلك المصطلح كأداة معرفية ، ضمن مشروعه الرامي إلى تحليل البنى السوسيولوجية للواقع الاجتماعي العربي عموما”، إلاّ انه – ولعله لم يقصد ذلك – جاء بمثابة توضيح واقعي وتطبيق عملي لمدلوله حيال وضعية المجتمع العراقي الحالي ، الذي كثيرا”ما أشار إليه الباحث بين ثنايا كتابه ، للتأكيد على انه يعد ضمن طليعة الأنظمة السياسية العربية ، بنمطيها الملكي والجمهوري – الجملكية حسب تسميته – باعتبارها الحاضنة النموذجية لتوليد ظاهرة (البدولوجيا) ، التي تشكل القاعدة الإيديولوجية والأساس المخيالي ، لسلطة (البدوقراطية) التي يعيش العراق الآن طورها المكتمل . حيث مظاهر ترييف السياسة وتطييف المجتمع وتخريف الوعي وتحريف القيم وتزييف الثقافة من جهة ، وتقزيم الدولة وتجريم السلطة وتحريم القانون وتأثيم المجتمع من جهة أخرى ، قائم على قدم وساق . للحد الذي يبدو انه تخطى المحمولات المادية والإيحاءات المعنوية ، التي يشي بها مصطلح (البدوقراطية) في صيغته المعيارية سوسيولوجيا”وابستمولوجيا”. وبالرغم من اجتهاد بعض الكتاب والباحثين العراقيين لجهة اشتقاق المفاهيم والمصطلحات ، التي توخوا من خلالها توصيف الواقع العراقي وتصنيف طبيعته الإشكالية ، من قبيل (الدمقراطية) للدلالة على استشراء العنف الدموي بين مكوناته ، و(الدينقراطية) للدلالة على اقتران الظاهرة الدينية بالسياسة الطائفية . إلاّ إن مصطلح (البدوقراطية) يردفه مصطلح (البدولوجيا) ، لا يبدوان فقط أقرب إلى تحليل بنية المجتمع الأهلي العراقي ، الذي تشير كل الدلائل والمؤشرات إلى إن مكوناته هي الآن في طور السيادة والهيمنة ، والتي من طبيعتها تقنين خيارات واتجاهات المجتمع السياسي كمرحلة أولى ، وظمور واندثار عناصره كمرحلة لاحقة فحسب ، وإنما الأنسب في إثبات صحة وجدارة فرضيات (الوردي) ، التي ذهب ضحيتها باكرا”قبل أن تشرأب في سعارها ، لتحيل الواقع إلى جحيم والمجتمع إلى هشيم .
[email protected]