23 نوفمبر، 2024 1:21 ص
Search
Close this search box.

علي الوردي ومقدمات عصر البدوقراطية

علي الوردي ومقدمات عصر البدوقراطية

لم يبلغ مفكر أو أكاديمي عراقي ذلك الشأو الذي تسامق إليه العالم الاجتماعي الراحل (علي الوردي) ، لجهة إثارة التشاكس السوسيولوجي والتشاكل الابستمولوجي والتخالف المنهجي ، بين جمهور الباحثين والكتاب فضلا”عن عموم المثقفين العراقيين ، حيال طبيعة المجتمع العراقي الملغز وتمظهرات شخصيته المطلسمة . ففي الوقت الذي استمرت فيه الغالبية العظمى من هؤلاء وأولئك ، ممن سحرتهم ملاحم تاريخ هذا المجتمع وخلبت ألبابهم أساطير سردياته ، وحالت ، من ثم ، مشاعر الحميّة الرومانسية وفنتازيا التصورات الطوباوية ، دونهم والإدراك الصائب لخصوصية تكوينه وفرادة طبعه وندرة شخصيته . يواجهون صعوبات جمة في العثور على النوابض الخفية والقوى العميقة ، التي يمكن اعتبارها العوامل المسؤولة عن تنميط وعي أفراده وتأطير سلوك جماعاته . فقد استطاع البروفسور (الوردي) – بعد أن خاض غمار الحياة البغدادية بكل مفارقاتها الواقعية وتصوراتها الأسطورية ، كما وخبر عن كثب أنماط علاقاتها الاجتماعية بكل أشكالها العفوية وأنماطها الصراعية – من إماطة اللثام عن الكثير من تلك الزوايا السوسيولوجية المهملة ، والكشف عن العديد من الرزايا الانثروبولوجية المطمورة ، وإزاحة الستار عن العديد من الخفايا السيكولوجية المنسية ، بحيث استحالت آراءه إلى ما يشبه حجرا”ألقي في بركة راكدة . فقدت إلى غير رجعة ثباتها المعروف وسكونها المألوف . ولأن عقل النخبة العراقية كان ولا يزال يفضل التعامل مع القضايا الظاهر والمباشرة بدلا”من المضمرة وغير المباشرة ، ويستسهل التعاطي مع المسائل الجزئية والسطحية بدلا”من الكلية والعميقة ، ويتوخى الانطلاق من العوامل الشائعة والمألوفة بدلا”من الغريبة والاستثنائية . فقد تشظت مواقفهم وتباينت ردود أفعالهم ، حيال أفكار(الوردي) وفرضياته الإشكالية ، إلى اتجاهات متباينة يكذب بعضها البعض تارة ، كما وانشطرت تصوراتهم إزاء تحليلاته وتأويلاته ، إلى تيارات متخالفة يكفّر بعضها البعض تارة أخرى ؛ فمنهم من أبدى إعجابه وأظهر تعاطفه مع كل ما توصل إليه من طروحات واستنتاجات بغثها وسمينها ، في حين أعلن آخرين رفضهم القاطع وشجبهم القاسي ، لمجمل ما تضمنه سستامه النظري والإجرائي من مفاهيم ومقولات جملة وتفصيلا”. وبالرغم من تصرّم عدة عقود على تلك الجلبة المعرفية والمنهجية التي أثارها ، إلاّ إن تنظيراته واستنتاجاته لا تزال محط أخذ وردّ على المستويين الشعبي والأكاديمي ، كما لو أنها صيغت الآن وطرحت لتوها . وهناك لغاية اليوم من يتحامل عليه ويتشاطر ضده بدعوى ؛ إن طريقته الأحادية بالغة التعسف في توصيف الشخصية العراقية ، فتحت الباب أمام كل من يروم التنطع لنقد محرماتها وتشنيع مقدساتها ، كما إن محاولته تنميط كينونتها ضمن صيغ مفاهيمية مستعارة من نظريات وسياقات غربية ، وضعته في مواجهة مستمرة مع أرباب السلطة الدينية والسياسية . هذا في حين ارتأى قسم آخر إن اللغة التي استخدمها في تأليف كتبه وإلقاء محاضراته ، كانت بسيطة وانطباعية لم ترقى إلى مستوى الكتابة العلمية ، فضلا”عن كونه أخفق في الذهاب شوط أبعد في قراءة الخارطة السوسيولوجية العراقية والتعمق في تحليل تضاريسها الانثروبولوجية . وكأنهم بذلك يلومونه على أسلوبه المباشر والصريح في طرح الإشكاليات الاجتماعية والنفسية ، ويعنفونه لرصد الأنماط السلوكية وتشخيص الانفعالات الوجدانية بصورة واضحة ومفهومة . بحيث استطاع أن يستقطب تأييد ومشاطرة الغالبية العظمى من عامة الناس ، فضلا”عن عدد كبير نسبيا”من خاصتهم لمضامين توجهاته وفرضياته . وذلك لأنها كان بمثابة المرآة الصادقة والأمنية التي عكست طبيعتهم الاجتماعية المعقدة التي يخشون البوح بها ، وأظهرت ما هو مخفي ومسكوت عنه من خصائص شخصيتهم الملتبسة التي يتجنبون الإفصاح عنها . والحقيقة إننا لم نسعى من خلال هذا الموضوع ، لإعادة قراءة طروحات وفرضيات (الوردي) حيال ما طرأ على بنية المجتمع العراقي ، من تغييرات شاملة وانزياحات عميقة وانقلابات مدوية – رغم أنها مقاربة راهنة ومغرية –  في ضوء مستجدات ومعطيات الواقع الانطولوجي والسوسيولوجي الجديد ، إنما توخينا توظيف مصطلح (البدوقراطية) لمقاربة واحدة من تلك الفرضيات التي تضمنت واقعة ؛ إن ما يعانيه الفرد العراقي من ازدواج في نمط شخصيته ، إنما هو نتاج تعرضه لدينامية سوسيولوجية نوعية ، تتبلور على خلفية صراع قيمي متمرحل ومتعاقب ، بين (مد بدوي) مقترن بقيم رعوية وعلاقات تغالبية في مرحلة ما من جهة . يعقبه ، من جهة أخرى ، (مدّ حضاري) يشي بثقافة مدنية تعايشية في مرحلة لاحقة وبالعكس . أي بمعنى حدوث انقلاب جدلي داخل سيرورة هذه الظاهرة ، يتغير من خلالها مسار تلك الدورة ، من (جزر بدوي) يرافقه انحسار لمظاهر العنف في العلاقات والفوضى في التعاملات ، إلى (جزر حضاري) يعقبه انهيار متتالي في بنى الوعي وانساق الثقافة . ولعل من أبرز معالم الموجة الأولى ( المدّ البدوي) ؛ تعاظم مكانة ودور مكونات (المجتمع الأهلي) على حساب شأن ووظيفة (المجتمع السياسي) ، بحيث تشرأب الجماعات القبائلية والطوائفية والاقوامية ، لبسط سلطانها / هيمنتها ، وفرض قيمها / ثقافاتها ، وتسييد علاقاتها / أعرافها . مقابل اضمحلال تدريجي للتجمعات الحضرية / المدينية ، وتآكل منتظم لسلطة الدولة وتلاشي متدرج لسيادتها ، الأمر الذي يستتبع تصدع بنية الاجتماع المدني وتلاشي ثقافته العقلانية واندثار قيمه الإنسانية ، اثر تفعيل محركات التفكك الاجتماعي والتذرر الثقافي والتشظي القيمي والتبعثر النفسي . ولهذا فقد لاحظ (الوردي) انه ((خلال دراستي للمجتمع العراقي وجدت فيه ظاهرة اجتماعية كدن ألمحها فيه أينما توجهت في نواحيه المختلفة عبر الزمان والمكان ، وهي التي أسمبتها بظاهرة الصراع بين البداوة والحضارة)) ، مضيفا”ضمن نفس المصدر انه ((حين يدرس الباحث تاريخ العراق الاجتماعي ، منذ أقدم عصوره حتى عصرنا هذا ، يجد القيم البدوية تستفحل فيه حينا”ثم تتقلص عنه حينا”آخر ، وذلك تبعا”لوضع الدولة فيه من حيث ضعفها أو قوتها . إن الدولة أساس مهم من أسس الحضارة)) . والجدير ذكره إن مصطلح (البدوقراطية) المستخدم هنا ، ليس من بناة أفكارنا إنما يعود فضل اشتقاقه وصياغته إلى المفكر والأكاديمي اللبناني الدكتور (خليل أحمد خليل) ، الذي اختاره إن يكون عنوانا”فرعيا”لكتابه الموسوم : لماذا يخاف العرب الحداثة ؟ . معرفا”إياه كونه((حكم البداوة ، الحكم التراثي / التوريثي بعقلية بدوية ، بدائية ، تقوم على مزاج تعاركي وثقافة غزوية ، مقابل عقلية زراعية ، رعوية متخلفة ، ومتصلة بدرجة أقل بصناعات تقليدية ، تفكك المجتمعات العربية ذات التركيبات التناقضية (بدوية –حضرية معا”) التي تطمس أهداف كل خطوة إلى الأمام بالتراجع خطوات إلى الوراء ؛ وبذلك تشوه نماذج الدولة المقامة فيها منذ عدة عقود ، وحتى منذ عهد قريب ، ناهيك عن ظاهرة اللادولة)) . وإذا كان الأكاديمي المذكور قد استخدام ذلك المصطلح كأداة معرفية ، ضمن مشروعه الرامي إلى تحليل البنى السوسيولوجية للواقع الاجتماعي العربي عموما”، إلاّ انه – ولعله لم يقصد ذلك – جاء بمثابة توضيح واقعي وتطبيق عملي لمدلوله حيال وضعية المجتمع العراقي الحالي ، الذي كثيرا”ما أشار إليه الباحث بين ثنايا كتابه ، للتأكيد على انه يعد ضمن طليعة الأنظمة السياسية العربية ، بنمطيها الملكي والجمهوري – الجملكية حسب تسميته – باعتبارها الحاضنة النموذجية لتوليد ظاهرة (البدولوجيا) ، التي تشكل القاعدة الإيديولوجية والأساس المخيالي ، لسلطة (البدوقراطية) التي يعيش العراق الآن طورها المكتمل . حيث مظاهر ترييف السياسة وتطييف المجتمع وتخريف الوعي وتحريف القيم وتزييف الثقافة من جهة ، وتقزيم الدولة وتجريم السلطة وتحريم القانون وتأثيم المجتمع من جهة أخرى ، قائم على قدم وساق . للحد الذي يبدو انه تخطى المحمولات المادية والإيحاءات المعنوية ، التي يشي بها مصطلح (البدوقراطية) في صيغته المعيارية سوسيولوجيا”وابستمولوجيا”. وبالرغم من اجتهاد بعض الكتاب والباحثين العراقيين لجهة اشتقاق المفاهيم والمصطلحات ، التي توخوا من خلالها توصيف الواقع العراقي وتصنيف طبيعته الإشكالية ، من قبيل (الدمقراطية) للدلالة على استشراء العنف الدموي بين مكوناته ، و(الدينقراطية) للدلالة على اقتران الظاهرة الدينية بالسياسة الطائفية . إلاّ إن مصطلح (البدوقراطية) يردفه مصطلح (البدولوجيا) ، لا يبدوان فقط أقرب إلى تحليل بنية المجتمع الأهلي العراقي ، الذي تشير كل الدلائل والمؤشرات إلى إن مكوناته هي الآن في طور السيادة والهيمنة ، والتي من طبيعتها تقنين خيارات واتجاهات المجتمع السياسي كمرحلة أولى ، وظمور واندثار عناصره كمرحلة لاحقة فحسب ، وإنما الأنسب في إثبات صحة وجدارة فرضيات (الوردي) ، التي ذهب ضحيتها باكرا”قبل أن تشرأب في سعارها ، لتحيل الواقع إلى جحيم والمجتمع إلى هشيم .
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات