22 نوفمبر، 2024 6:12 م
Search
Close this search box.

علي الوردي وحديث المتصوّفة

علي الوردي وحديث المتصوّفة

في منتصف الثمانينيات، من القرن المنصرم، حضرنا، نحن مجموعة من الشباب لحفلة زفاف في أحدى مُدن بغداد العريقة. كان الحفل غريبًا من نوعه، أو هكذا تخيلناه يومها. الغرابة ما فيه إنّا شاهدنا مجموعة من الرجال لأحياء الحفل وهم يقرعون الدفوف وينشدون اناشيد فيها مدح للنبي وللأولياء وللصالحين، وعددهم يربو على سبعة أشخاص، إنْ لم تخني الذاكرة، كان قائدهم كبير السن يرتدي جلباباً وقلنسوة. ورويدًا رويدًا بدأ الحماس يدب في صفوف هذه الحلقة، في روحانية تلك الاجواء. وكان الحضور جمهور غفير: من الرجال والنساء، وفي مختلف الاعمار، بعض من الجمهور هو الآخر أخذه الحماس، فراح يردد معهم الأناشيد وتلك الحركات، باللاشعور. أما نحن فكنّا بين العجب والانبهار والدهشة، لأننا نشاهد هذا الاستعراض لأول مرة في حياتنا. اعمارنا متقاربة تقريبًا، كان عمري على ما اتذكر لا يتجاوز خمسة عشرة عامًا. وحينما أشتد بهم الحماس نهضوا على أهبّة الاستعداد بعضهم أخذ سكينا، وآخر أخذ حربة وثالثا أخذ خنجرًا، وهكذا. وطفقوا يضربون أنفسهم في استعراض جماهيري وحماس منقطع النظير، وكان الحضور بين الاندهاش والانبهار، وبين الانغماس في هذه الاجواء. حتى استمر هذا الاستعراض الحماسي المصحوب بالإنشاد والضرب بالآلات الجارحة الى ساعة متأخرة من الليل. ومضت تلك الاوقات، كخيوط الشفق التي تطاردها الشمس، حتى انفض الجميع وذهب كلٌ الى أهله، وانتهى الحفل.
وعندما سئلت في اليوم التالي عن أصل هذا الاستعراض الغريب، وعن هؤلاء الاشخاص، قال لي بعضهم أن هؤلاء “سحرة”! يخدعون الناس بهدف حصولهم على الاموال!.
وبعد سنوات طويلة، قضيتها بين القراءة والمطالعة، ونكد الحياة المصحوب بالأفراح والاتراح، علمتُ أن هؤلاء ليسوا بسحرة، بل أنهم صوفية، وأن الصوفية لها مدارس ورواد وهناك رجالات كبيرة ومعروفة على مستوى العالم برمته عُرفوا بهذا الاسم. وإن شخصيات صوفية كبيرة تعرضت للاضطهاد وللقسوة وللمحاربة، وللتجهيل، واقصيّ بعضهم، وكفُر الآخر واتهم بأنه زنديقا، وهناك من حُكم عليه بالموت، اهونه الحرق بالنار كالذي جرى للحلاج.
الدكتور علي الوردي عالم الاجتماع العراقي المعروف، في كتابه “خوارق اللاشعور” يتحدث عن الصوفية في فصل من فصول كتابه هذا ويربط طريقة الصوفية باللاشعور، وأن هذه القوى التي يمتلكونها يصفها بأنها قوى لا شعورية تكمن داخل النفس، ويعتقد أن جميع البشر يمتلكون القوى هذه، وباستطاعة الانسان أن ينميها عن طريق التركيز والصفاء النفسي. لكنه يشير الى أن العلوم الحديثة والتركيز في النظريات العلمية والفلسفية وغيرها تُضعف هذه القدرة حتى تضمحل تدريجيًا.
ففي فصل “النفس والمادة” يحدثنا الوردي أنه هو وجماعة من طلبة كلية الآداب والعلوم ذهبوا في سفرة الى مدينة تكريت (شمال العراق)، وأنهم شاهدوا هناك مجموعة من الدراويش يقومون بفعالية، (هي اشبه بالتي حكيتها آنفا) وصفها الوردي بأفعال خارقة قام بها هؤلاء الدراويش، يقول وأنه حاول أن يتأكد بنفسه عن صحة ما فعلوه فظهر لديه أنها خوارق بحق، وليست خداع وشعوذة، بحسب تعبيره. ويؤكد أنه لا يهمه رأي القارئ لهذا الحادثة التي شاهدها بنفسه ويرويها بكتابه، بقدر ما يهمه أنه لمسها لمس يد. بمعنى أنه متيقن من صحتها ولا ينتابه الشك.
وهذه هي ليست الحادثة الوحيدة التي يشاهدها الوردي سواء في العراق أو في دول أخرى زارها اثناء رحلاته للخارج، كما يقول، ويرويها في كتابه، بل يذكر اكثر من حادثة، ويعلق “وقد يقوم بعض المتصوّفة في العراق بأعمال مشابهة لتلك التي يقوم بها فقراء الهنود. فهم يضربون أنفسهم بالسلاح ويغمدون الخناجر والسيوف في بطونهم ويأكلون النار”. (خوارق اللاشعور- ص 183، دار الوراق)
ومن طرافة ما يذكره الوردي، أن أحد الفضوليين رأى درويشاّ يضرب نفسه بالسيف، بعمد هذا الفضولي الى أخذ السيف ليقلد به الدرويش ويظهر مهارته هو الآخر، وكان بين الحضور ما اسماهم الوردي الجنس اللطيف، بعض النساء اللواتي حضرنَ المشهد، فعمد الى السيف فغمده في بنطه ليخرجه من قفاه، فمات الرجل بالحال. غير مأسوف عليه كما عبّر الوردي.
وصاحب هذه السطور يرى، إنّ من الحماقة أن يتطفل المرؤ على عمل غير عمله، وعلى بضاعة غير بضاعته، لإيهام الآخرين أنه خبير أو ومحنّك مُطلع، لينته بالتالي الى فضيحة أو يوقع نفسه في مأزق ليصبح اضحوكة بين الناس، أو قد يخسر الرهان وتكون الخسارة كبيرة هذه المرة، كروحه التي بين جنبيه، كما فعل هذا الرجل الذي يحدثنا عنه الوردي.
ويقول الوردي أن الهنود لهم طرق في هذا المضمار (التصوف)، فمنهم كما يذكر من يستخدم ما اسماه “التنويم الذاتي”، ومنهم من يفعل التنويم المغناطيسي، حينما يفعلون هذه القضايا الخارقة، التي يعجز المشاهد أن يفعل مثلها فتدهش لبه وتثير أعجابه.
الوردي يقول: “أما متصوّفة العراق فيلجئون الى الغناء ودق الدفوف والى نوع من الرقص والدوران. واذ ذاك يدخلون في شبه غيبوبة يطلقون عليها احيانا (المدد) وليس المدد في الواقع الا تنويمًا ذاتيا” (المصدر ذاته: ص 185)
وهذه الطريقة التي يصفها الوردي هي ليست مختصة بالعراقيين، بل تستخدما كثير من متصوفة الدول الاسلامية ومنها متصوفي مصر، وهي طريقة ورقصة جلال الدين الرومي، تلميذ شمس الدين التبريزي المتصوف المعروف على مستوى كبير، في الاوساط الصوفية والاوساط الثقافية معاً، ففي رواية “قواعد العشق الاربعون” للكاتبة التركية اليف شافاق استعرضت الروائية حياة جلال الدين الرومي من خلال استاذه شمس الدين الذي علمه هذا الفن أو هذا العلم. و كان هذا العمل الكبير الذي قامت به شافاق هو من الابداع بمكان، ويدل على ثقافتها واطلاعها الواسع وخصوصًا الثقافة المتعلقة الصوفية، وقد تُرجمت الرواية الى عدة لغات وانتشرت انتشار النار في الهشيم، حتى بيعت منها آلاف النسخ ولا تزال هذه الرواية في مصاف الروايات الاكثر مبيعًا في عالم الكتب. وهي ليست الرواية الوحيدة التي الفتها هذه الكاتبة، بل لها كثير من الاعمال الادبية الناجحة.
ويعتقد المتصوفة – كما يشير الوردي- أنّ هذه الخوارق التي يقومون بها هي دليل على صحة عقيدتهم. لكن الوردي يرفض هذا الاعتقاد، وينسب هذا الى قوة عقيدتهم، لا صحتها، فكلما تكون العقيدة قوية ومبنية على أسس سليمة يستطيع معتنقها أن يأتي بخوارق لا يستطيع غيره الاتيان بها. فصحة العقيدة لها شأن آخر كما يقرر الوردي.
ويقول: “إن العقيدة في الواقع ليست بيد الانسان، وهو لا يستطيع أن يحصل عليها أو يتركها كما يريد. إنها قناعة لا شعورية تأتي نتيجة الايمان والمراس الطويل والانغمار الذي لا يخامره شك أبدًا. إن العقيدة التي تكون في العقل الظاهر فلا تتغلغل الى العقل الباطن قد تضر ضررًا بليغًا من هذه الناحية. وهي ربما ادت الى عكس النتيجة المبتغاة منها. إن صاحب هذه العقيدة السطحية لا يكاد يضع قدمه على النار اقتداءً بفقراء الهنود، مثلا، حتى يأخذ عقله الباطن بالتخوف والاستغاثة. فهو يقول لنفسه: أقدم ولا تخف، ولكن عقله الباطن يهمس في اغوار النفس بهمسات الخطر ودنو الاجل”.
كانط في نقده للميتافيزيقا يرفض كل النظريات القديمة، ويؤكد على أنّ العقل لا يثبت صحة الدين من عدمه، فهو ينقد حتى العقل نفسه، معتبرًا أن العقل محدود في المضمار، بل أن الاخلاق يجب أن تكون هي العيار لصحة الدين، وهو بذلك يرفض تاريخية الاديان، ويقول ليس هناك دين افضل من دين، فهي كلها صحيحة طالما تتبنى الجانب الاخلاقي، ولا تفرّط بالإنسان، فالدين بلا أخلاق ناقص، والاخلاق بلا دين ينتابها الارتياب.
كذلك الصوفي فهو يبني عقيدته على الالهام والصفاء النفسي، والاطمئنان القلبي، ولا يعطي العقل الدور البارز، بل عنده الايحاء والتركيز على الجانب الروحي والنفسي هو المصداق الذي يسند عليه عقيدته الايمانية. إنّ الاهتمام بالجانب الروحي عند المتصوف هو فوق كل المعايير، كما أن الجانب الاخلاقي يعتبر الثاني الذي لا يستغني عنه، لأنه يستمد من الاخلاق المصداقية ويحصل على السيرة الحسنة بين المجتمع.

أحدث المقالات