في عالم الشعر، ثمة أصوات تطرق أبواب القلوب بهدوء، لكنها لا تغادرها أبدًا، لأنها محمّلة بالصدق، ومفعمة بالتجربة. من بين هذه الأصوات، يبرز اسم علي حميد الحمداني، الشاعر الذي مزج بين صرامة المهنة الإنسانية ورهافة الحس الشعري، ليمنح قصيدته طابعًا خاصًا يتأرجح بين البوح الوجداني والتأمل الفلسفي.
وُلد الشاعر علي الحمداني في بغداد يوم 11 تموز 1959، وأكمل دراسته فيها، ثم التحق بكلية الشرطة العراقية وتخرّج فيها بدرجة البكالوريوس في علوم الشرطة والتحقيق الجنائي عام 1981. واصل دراسته التخصصية في معهد الدراسات الأمنية في جمهورية مصر العربية سنة 1986، ليعمل بعد ذلك في سلك الشرطة حتى إحالته إلى التقاعد برتبة عميد.
غير أن الحمداني لم يكن رجل قانون فحسب، بل كان شاعرًا فطريًّا ينتمي إلى طبقة شعرية ظلّت على تماس دائم مع الوجدان الإنساني، حتى وهو يؤدي واجباته المهنية. وقد استطاع أن يثبت وجوده على الساحة الأدبية من خلال مشاركاته ونشره لقصائده في عدد كبير من الصحف والمجلات داخل العراق وخارجه.
للحمداني أكثر من ثماني مجموعات شعرية مطبوعة، تنوعت بين الوجداني والوطني والصوفي، أبرزها:
من دفاتر العشق (1986)- بعض الهوى (2015)- نزيف الأقمار (2016)- الباب القديم (2017)- حرائق الغيوم (2020)- لكني رحلت (2021)- ذخر الموالين (2022)
كما نشر كتابًا نقديًا بعنوان قراءات تكوينية في رقم بابلية عام 2023، ويُنتظر صدور جزء ثانٍ منه. إلى جانب مجموعته القصصية المرتقبة انتظرني – ريثما أنهي الحكاية، مما يدل على قدرته على التنقل بين الأجناس الأدبية دون أن يفقد بصمته الخاصة.
يقف المتأمل في شعر علي الحمداني أمام تجربة ناضجة، عركتها الحياة، ومضتها التراجيديا العراقية، وغذّاها الشغف بالحب واللغة. إنه شاعر يتوسل الصورة لا لتكون مجرد زينة بل نافذة رؤيا، وكأنّ قصائده نداء داخليّ لعالم أجمل.
شعره يميل إلى الرمزية الشفافة، فلا يغرق في الإبهام ولا يركن إلى التقريرية. تتكرر في قصائده مفردات من قبيل “الغيوم”، “العشق”، “الدموع”، “الرحيل”، و”الباب”، وكلها إشارات إلى هواجس وجودية وأحاسيس وجدانية توحي بتجربة ذات طابع تأملي حزين في كثير من الأحيان.
كما يبدو في ديوانه (لكني رحلت) اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة العابرة التي تُصاغ بلغة عذبة، وتُحمّل معاني أكبر من حجمها الظاهري، وهو ما جعل بعض النقاد يصنّفون تجربته ضمن الشعر الوجداني التأملي.
نال شعره اهتمامًا نقديًا وأكاديميًا ملحوظًا، حيث كُتبت عنه رسالتان للماجستير، إحداهما دراسة تحليلية في شعره في جامعة كربلاء، والأخرى دراسة أسلوبية في جامعة القادسية. كما أُنجزت عدة بحوث جامعية تناولت التناص القرآني والأسلوبية في دواوينه، مثل “ولكني رحلت”، مما يشير إلى ثراء مادته الشعرية وقابليتها للتحليل النقدي.
يرى النقاد أن شعر الحمداني يمتاز بـصدق العاطفة وعمق التجربة، ويتصف بأسلوب سلس بعيد عن التعقيد، يجمع بين المباشرة الفنية والرؤية الشعرية. كما يشيدون بقدرته على المحافظة على الإيقاع دون التفريط بجمال المعنى، وهو ما جعله قريبًا من ذائقة القارئ المعاصر.
شارك الشاعر في عدد من المهرجانات الأدبية داخل العراق وخارجه، أبرزها: مهرجان المربد في البصرة عام 1977، حيث فاز بالمركز الأول للشعراء الشباب. مهرجان الإسكندرية الدولي للآداب والفنون (2017). مهرجان المبدعين العرب الذي تنظمه وزارة الثقافة المصرية (2023)، ونال فيه الميدالية الذهبية.
مهرجان اتحاد أدباء وكتّاب كربلاء (2024) وغيرها.
إن تجربة الشاعر علي الحمداني تُمثل جسرًا بين انضباط الواقع وحرية الخيال، بين انتمائه لوطن مكلوم وحنينه لعالم من الشعر والجمال. قصائده مرآة عاطفية للزمن العراقي، ورؤاه الشعرية تعكس ما اختزنته روحه من محبة وحنين وتأمل.
إنه شاعر يُقرأ ليس فقط بعيون النقاد، بل بقلوب المحبين الذين يجدون في شعره عزاءً، وفي كلماته معنىً قد لا تقوله الحياة صراحةً.
من شعره قصيدة الوتر الجريح يقول فيها:
وبَحثتُ عنْ وَطنٍ للحني
بينَ أروقةِ الغناءْ
عنْ مفرداتٍ يقتنيها الشِعرُ
في زَمَنِ الرِياءْ
وكتبتُ في قفصِ البَلابلِ قصَّتي
أسميتُها لحنَ الوفاءْ
ورَجَعْتُ أكتبُ حلميَ الموؤدَ
في نبض القصائدِ والحروفْ
كلُّ القصائدِ
حيثُما نَطقَ القَريضُ
فأشرَقتْ آياتُهُ
كالحُزنِ يفضَحُهُ البُكاء
من أينَ يأتيكَ الغناء..
والشعرُ جُرحٌ ،
كلَّما نكأته نَزَفَ الدِماءْ
هذه القصيدة كتبت بلغة شعرية رصينة، تحافظ على جزالة اللفظ ورشاقة العبارة. نلاحظ فيها: الأسلوب البياني والتصويري: “قفص البلابل”، “نبض القصائد”، “آياته كالحزن”، تعبيرات ذات طابع مجازي تشكل بنية الصورة الشعرية. والتضاد فيها يبرز في: “الحلم الموؤد” – الجمع بين الحلم (الأمل) والوأد (الفقد-الموت) يضفي بُعدًا دراميًا. ورغم أن القصيدة غير ملتزمة بوزن تقليدي واضح، إلا أن التفعيلة ظاهرة في بعض مقاطعها، وتدفق الألفاظ يمنحها إيقاعًا خاصًا.
والقصيدة صرخة شاعرٍ يبحث عن وطنٍ للحن، أي عن فضاء صادق يحتضن شعرًا نقيًا غير ملوّث برياء العصر. إنها تعبير عن غربة الشاعر في زمن يهيمن عليه الزيف والنفاق، وزمن لا يُنصف الكلمة الصادقة.
و “قَفص البلابل” ترمز إلى القيود التي تُكبّل حرية التعبير والبوح، ومع ذلك يكتب الشاعر قصته ويسميها “لحن الوفاء”، دلالة على إصراره على الصدق رغم القيد. أما “الحلم الموؤد” فهو إشارة إلى أحلام الشاعر أو أحلام الجيل، التي وئدت قبل أن تولد، لكنها تجد بقايا نبض في القصائد. وقوله أن “الشعر جرح”، عبارة مكثفة، تحمل فلسفة عميقة بأن الإبداع لا يأتي إلا من ألمٍ حقيقيٍ ومعاناة.
والقصيدة على كل حال تسعى إلى إيصال فكرة أن الشعر الأصيل لا ينمو في بيئة الزيف، بل هو صدى حقيقي لجرح داخلي. وهي بذلك تحمل رسالة مزدوجة: نقد الزمن الرديء الذي استحالت فيه القيم، وأصبح فيه الشعر مرآةً للبكاء لا للغناء. وتثبيت موقف أخلاقي وجمالي، بأن الوفاء للكلمة الصادقة، حتى في أقسى الظروف، هو رسالة الشاعر وسبب وجوده.
أما ايماءتها ودلالاتها: الوطن للحن: الوطن هنا ليس جغرافيا، بل فضاء معنوي يحتوي الإحساس الصادق. وزمن الرياء: إشارة إلى الزمن الثقافي والسياسي والاجتماعي الراهن، الذي فقد فيه الصدق مكانته. وقفص البلابل: البلبل رمز للغناء الحر، والقفص رمز للقمع. الجمع بينهما يعكس ألم الشاعر المُكبّل. والايماءة الأوضح: الحزن يفضحه البكاء: معادلة جميلة بين الداخل والخارج، بين الشعور والتعبير، وهي إيماءة قوية إلى صدق التعبير الشعري. والاستعارة في نكأت الجرح: طبية تدل على استحضار الألم وإثارته لتوليد الشعر، وهي صورة مؤثرة ومأساوية معًا.
والخلاصة أن قصيدة علي الحمداني هنا تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ”الاعتراف الشعري”، وهي نصّ يحمل مرآة الشاعر الداخلية، لكنه يتجاوز الذات ليعبّر عن همٍّ جمعي، عن عصر اختنق فيه النقاء. كما أنها تمزج بين اللغة العالية والصورة المؤثرة، وتعكس قدرة الشاعر على توليف المشاعر والتجربة والمعنى في بنية متماسكة.