على أي ناقدٍ أن يملكَ الجرأة الكافية وأن يكون شجاعا في نقده وألاّ ينجرفَ مع المنجرفين وألاّ يجعلَ قلمهُ أسيرَ الارهاصات الفكرية والتخبطات العشوائية . فالنقدُ رسالة انسانية تنطلقُ من الضمير الحي ومن العقل السليم نحوَ الآفاق بموضوعية علمية لا تشوبها أيّة شائبة من أجل تشخيص الأخطاء بحجومها دون تكبير أو تصغير ، ومن أجل ايصال الحلول الصحيحة الى المجتمع بغض النظر عن قبول هذا الطرف أو رفض ذاك الطرف . وحين يرتقي الناقدُ بقلمهِ الى هذا المستوى الأخلاقي من الكتابةِ فانه يصبحُ كالطبيب الناجح الحاذق في تشخيص الأمراض ووصف العلاج المناسب لها . ويبدو من خلال قراءة بعض الكتابات والمقالات أن الكثير قد خرجوا عن دائرة النقد الصحيح نتيجة انجرافهمِ مع الأحداث دون فهمها الفهم الذي يعينهم على وضع النقاط على الحروف .
ووفقاً لما تقدّمَ فإنني أرى أن الشعب العراقي قد عبّرَ من خلال مظاهراته في بعض المحافظات عن رفضهَ لأخطاء المسؤولين ونسي الأخطاء الكثيرة الجسيمة التي مارسها وما يزال يمارسها يومياً . والمنطق يقول أن الوطن ملك الجميع والحفاظ عليه واجبٌ يتحملهٌ الجميع بلا استثناء . ولا توجد أيّة نظرية أو بديهية تبيحُ للمواطن التنصل عن واجباته وتسمحُ لهُ فعلَ ما يشاء . ولوْ وضعنا الكثير من الأمور والأحداث تحت المجهر ، ودققنا بحيادية تامة لوجدنا أن جزءاً كبيرا من الخلل الحاصل في حياتنا – كعراقيين – سببهُ العراقيون أنفسهم . ومن هنا فان جرأة الناقد تدعونا الى مكاشفة العراقيين بصغائر الأمور وكبائرها لكي لا يختلط الحابلُ بالنابل ويضيعُ الخيطُ مع العصفور . وهذا لا يعني أن المسؤولين في السلطات الاتحادية أو المحلية خارج دائرة اللوم والاتهام ، ولا يعني أيضا أن العملية السياسية الجديدة أعطتْ ثمارها بمنتهى النجاح . ولكن تشخيص الخلل والأخطاء يدعونا الى قول الحق لكيْ يفهمَ كلّ ذي واجب واجبهُ وكلّ ذي حقّ حقهُ . ومن المعلوم منطقيا أن الدول المتقدمة في العالم تعتمدُ في رقيّها على قيمة المواطنين قبل قيمة الحكومات ، وحين يسمو المواطنون بروح المواطنة النقية فان الحكومات تتوافق مع هذا السمو والرقي وفقاً لقاعدة الانسجام المتبادل ، لأن النموذج النظيف النقي يكشف الأشياء الشاذة بسرعة ويرفضها ولا يسمحُ لها بالبقاء طويلا . ولا أحدَ ينكرُ الأخطاء الفادحة والممارسات غير المقبولة من قبل الكثير من أبناء الشعب العراقي ، وهي أخطاء واضحة وضوح الشمس وليست خافية على أحد ، كما أنها على درجة من الخطورة ما يجعلها تهدّدُ سلامة الوطن والمجتمع وتلحقُ أضراراً جسيمة بهما . ولا أرى ضرورة للاستدلال بها في هذا المقال لأن الجميع على دراية تامة بها . ويمكن تبويب هذه الأخطاء والممارسات ضمن أبواب مهمة جدا مثل عدم احترام القوانين والأنظمة والاستهانة بهما ، وفقدان الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن والآخرين ، والخروج من فضاء الانتماء الوطني المحض الى فضاءات الانتماءات الصغيرة الضيقة التي من شأنها تعزيز روح التفرقة والخلافات والصراعات كالانتماء العشائري والانتماء الطائفي ، اضافة الى روح الانتقام من الوطن نفسه عند حصول أيّة أزمة من الأزمات . ولوْ فعلاً أرادَ المتظاهرون تحقيق العيش الكريم الآمن عليهم التظاهر من أجل تصحيح تلك الأخطاء أولاً ، لأن صلاح المجتمع يؤدي الى صلاح السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كردّ فعلٍ طبيعي منطقي . أمّا أن يتظاهرَ الشعبُ ضدّ المسؤولين طلباً لتحقيق العيش الرغيد والرفاهية وهو يمارسُ الأخطاء تلوَ الأخطاء يوميا فهذا هو التناقضُ بعينه ، ولا يمكن لأي شعب من شعوب العالم أن يرتقي بالتناقضات العجيبة الغريبة .
أنيس الأنصاري