نصف متر بيني وبين من بات محملقا وهو يدقق النظر في سحنة وجهي متفحصا مرر يده بلطف أسفل جفني الأيمن وكذلك الأيسر ثم عاد مجددا ينظر في عيني ، التي نزلت قليلا وهي تدقق النظر في غضون كبيرة ارتسمت على محياه لوهلة لبث صامتا وهو ينظر ألي والى الأصباغ التي في يساري كأنه يسألني فأجبته( نعم كلانا كهل) وقبل أن أودعه قرأت نصيحة ما في عينيه مفادها حاول ان لا تكذب مرة أخرى ودعنا بعضنا بنظرة جانبية على فروتي رأسينا ، حيث السواد الذي لم ينسجم أبدا مع واقعه الذي كان يجره إلى وفرة من الشيب اتسقت على شكل حلفاء على جرفي نهر تيبست في يوم بارد .
وكذلك ذقني الذي لم يكن بحال أحسن منه والذي ذكرني بقصة قرأتها ذات يوم للكاتب الكبير (جاك لندن ) ان الكلاب في تلك الأصقاع النائية من المحيط المنجمد الشمالي ، تقطع آذانها وذيولها حتى تعد مؤهلة في خوض وحسم النزالات لصالحها .
أما انا.. اقصد قررت ان احلق ذقني هذا الصباح بعد تمحيص وتدقيق في ليلة البارحة ، لا لشيء عفوا اقصد لاشياء كثيرة ..منها كسر الروتين والتمرد عليه بإطلالة جديدة .
هرعت مجددا إلى الحمام وقد قطع حبل أفكاري رنين الخلوي الذي سمرني بداية في مكاني منصتا لموسيقى الرنة التي أطربني استمرارها لحين النظر في لوحة الجهاز إيه .. قفزت هذه المفردة من شدقي بغبطة وإنا اضغط على زر الاتصال .( هلو حبيبتي) .. أكيد ملابس جديدة للحفل
اجل .. اجل .. والساعة اليدوية كذلك .. لا فقط اشعر بالتعب .. الشركة .. لم اذهب لها اليوم ..إن شاء الله غدا .. هلو تصبحين على خير .لفت انتباهي وجود الورقة النقدية فئة العشرة آلاف وقد دس نصفها بعناية تحت منفضة السجائر، بينما احذ نصفها الآخر يلوح بفعل المروحة المنضدية قرب السرير الحديدي الذي تأود بغلالة بيضاء متسخة وقديمة لعلها تقول انا آخر ما تبقى من حطام الذكريات . بل انا آخر ما تبقى حان دوري الآن .. لا لم يحن بعد ودسست نصفها الآخر مغيبا إياها تماما تحت المنفضة .
الحجرة اليوم هي اصغر حجما من ذي قبل وأجوائها الخانقة تعوم وسط برزخ كثيف من الغبار حتما ان صيفنا قائظ بل مناخنا بصورة عامة ، من أمطار وأتربة ، من حر وقر ، هو مناخ قاس فهو ينعكس سلبا على طباع الهوام لتجدهم مسعورين بوابل من الشتائم ساعة الغضب .
لكني أجد نفسي اليوم بهذه الحجرة ، وهذه الآلاف العشرة، أسيرا لنزعات نفسية خطيرة قد تكلفني حياتي . قبل أيام كان لدي خمسة أضعاف هذا المبلغ ، كان شعوري حينها كما لو إني امتلك جزء من الكون وكذلك الحال وأنا أقف قرب محلات بيع الألبسة النسائية .. وبنفس الثقة ادفع له ثمن الحقيبة والحذاء . ثم الساعة اليدوية من مكان آخر كما أسلفت ، كله لحبيبتي التي أجد فيها عزائي الوحيد وسلوتي هذا جل ما قدمته لها خلال خطوبتنا والتي تمت عن طريق الدار التي طرقت بابها بعد ان أوصد أكثرها وأنا استقبل دون خوف أو وجل نصفي الثاني بعد الأربعين وعلى الرغم من إنها لا تبصر إلا ان لها بصيرة بسجية أنعشها الرحمان نفحة من فردوسه فحباها بالحسن والقبول ، وأورثها قداسة أوليائه الصالحين..
اسحب نفسا عميقا عمق حزني وحسرتي واترك لدخانها قرار صمتي في كبوتي وإنا أطفئ تلالا من السجائر في قلبي، اعلق أعقابها نياشين وأوسمة في رئتي .
هي لن ترى هديتك اليتيمة كما هي يتيمة ..؟
لكني أرى قلبها الأبيض والمس روحها الطاهرة .
ولكنها عمياء ..؟
وماذا أرى انا غير الشر.. ان بصيرتها المتوقدة أفضل من كل ضياء الأرض .
هي لن تسعدك أبدا وأنت الوحيد المحروم.؟
لربما ان لروحينا ان تتساميا بعيدا ..بعيدا.. عن البشر.
أنس ..حاول ان تنساها.. سرعان ما ستكون واحدة من الذكريات.؟
سوف أعيش على هذه الذكرى .. واجعلها صنو أحزاني .
تعيش على وهم ؟
حياة بلا أمل بكاء بلا دموع .
أذن انتبه إلى ذقنك أنت تقلد المراهقين في تصرفاتهم ؟!
حدجني نفس الصديق القديم قدمي انا ومن نفس المكان ، حيث استقر احد الاعواد بين أسناني .. عبثا يمنيها بقطعة من ( البفتيك *) وقد أزلت لحيتي بالكامل بعد محاولة، ترك جزء بسيط منها عند الحنك تماشيا مع الموضة وإرضاء للصديق الذي ودعته وأودعته خزانة الملابس ، حيث أصبحنا صديقين انا وذلك الكهل الذي كان يتفحصني دوما من تلك المرآة والتي نعتني يوما منها بالكاذب . انا لم اكذب عليها أبدا عندما قلت لها باني اعمل في شركة وان بيتي البسيط المؤقت مفتوح على ساحة لشاحنات النقل البري، حيث الضجيج الذي لم تالف مثله قط. وإنها كما لم ترى هديتي البسيطة جدا لها ، لن تراني ذات يوم اعتمر قبعة كبيرة واعدو مسرعا دون حصان، أزاحم جيشا من المراهقين كي أتشبث بواحدة من عربات النقل الكبيرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (قطعة البفتيك )قصة قصيرة من كتاب تحت سماء الجليد للكاتب الكبير جاك لندن