يقول علماء الاجتماع ان لكل منا -وإن لم نشعر- حاجة للولاء الى جهة معينة، وتدفعنا لهذا الولاء غرائز عدة، تنمو وتكبر معنا وتتشعب بازدياد متطلبات حياتنا. فأول ولاء كان لحظة ولادتنا، إذ سعينا الى أثداء أمهاتنا من دون إدراك، ثم أعقبه ولاء ثانٍ في سني طفولتنا الأولى، وثالث في مدارسنا، وحين دخلنا معترك الحياة العملية كان بانتظارنا ولاء رابع.
والانسان السوي يضع للولاء ضوابط، تدخل في بلورتها التزامات اجتماعية وأخلاقية، فضلا عن البيئية والظرفية. وقبل كل هذه الولاءات وبعدها وخلالها، هناك سقف كبير يجمع الكل اينما كانوا، ذاك هو سقف الوطن، وهو فرض على كل من يدعي الولاء له بدءًا من أكبر رأس فيه، وصولا الى ابسط مواطن.
إن الولاء في عراقنا صنفان: الأول الى الدولة، وهذا تحدده اربعة ثوابت هي: “هوية الأحوال المدنية، شهادة الجنسية، البطاقة التموينية وبطاقة تأييد السكن”. أما الصنف الثاني فهو ولاء الى أرض العراق ومائه وسمائه وماضيه ومستقبله، إذ يسمو الى مافوق المحددات، فلا تحده مستمسكات او صور او طوابع، ولاتقيده صورة قيد.
والصنف الثاني من الولاء يحتم على الذين يشعرون به إبداء المواقف الفعلية علنا، بل والتفاخر بها أمام الملأ. وليعلموا أن بولاء أبنائه فقط يتمكن العراق من الوقوف بوجه التدخلات الخارجية، فكما يقول مثلنا: (الما يدني زنبيله محد يعبيله) وبولاء أهله يضع يده على جرحه النازف الذي شارك فيه أعداء الداخل قبل الخارج، وكما قيل: (عينك على مالك دوه).
ولايخفى على الجميع كم هي مظلومة هذه القيمة عند نسبة لايستهان بها من العراقيين، وقد راح كثير من المحللين في تفسير هذا الى أن نظام البعث، بلور الوطن بشخص واحد، فارتبطت الأرض به، ومفردات الدولة باسمه، ومستقبل العراق بمستقبله، حتى غدا الولاء حكرا له بين قوسين حصريين، فإذا قال صدام قال العراق. فانمحقت صورة الوطن أمام بهرج صورة السيد الرئيس المبجل حفظه الله ورعاه، واندرست معاني الوطنية تحت أقدام القائد الضرورة، واستدارت بوصلة الفداء 180 درجة، معرضة وجهها عن الوطن، متجهة صوب “أبو حله” فهانت الروح ورخص الدم، فبالإثنين نفديك ياصدام، لانفديك ياوطن.
ولم ينته الأمر عند هذا الشخص وذاك الحزب، إذ توالدت منذ عشرين عاما عشرات الأحزاب، وتكاثرت بالانشطار اللاحياتي واللاحيائي مئات الشخصيات، وما يؤسف له أن قاعدة جماهيرية واسعة من أبناء الوطن، شطت عن الولاء السوي، وانزلقت في دهاليز الذيلية والتبعية، فحق عليها بيت الشعر:
لاخير في ود امرئ متلون
إذا الريح مالت مال حيث تميل
ومازال الوطن يئن تحت تشظي ولاءات أبنائه، فمنهم من أدار أشرعته تبعا لريح مصلحة مادية خاصة، وآخر اختار الفئة ليكنّ لها الولاء المطلق، على حساب وطنه وأهله لقناعة تنم عن جهل وتخلف وسوء فهم، ومنهم من تأبط شرا أتى به من خلف الحدود، ليكتوي بشرره من في داخلها، خدمة لأسياد وأجندات كان قد كلف بإتمامها، ومنهم من ارتدى زي “أبو رغال” من لامة رأسه حتى أخمص قدميه، فكان بارا خدوما للغرباء، رحيما رؤوما بهم، فيما هو شديد على أبناء جلدته.
وقد سجلت لنا أحداث كثيرة، علامات بارزة في ابتعاد بعض أهل البلد عن الولاء له، وبصقوا في نهرين لطالما رووا ظمأهم من مائيهما، ولعلهم المقصودون بكلمات قالها “حسن خيوكه” قبل ثمانين عاما في البستة البغدادية:
من البير لو مي شربت
بالك تذب بيها حجر
لابد تعود وترتوي
ويحودك عليها القدر
[email protected]