19 ديسمبر، 2024 8:22 م

على ارض ميزوبوتاميا ، الجاويدان ينحر رامبو

على ارض ميزوبوتاميا ، الجاويدان ينحر رامبو

دأبت الادارة الامريكية ، وعلى رأسها الرئيس ترامب في تغريداته ، وعدد أخر من المسؤولين الامريكيين ، على اطلاق اتهامات نارية خطيرة ضد طهران منذ ان الغى ترامب ومن جانب واحد التزامات الولايات المتحدة تجاه ايران بموجب الاتفاق النووي المتعدد الجوانب . ففضلا عن اتهام ايران برعاية الارهاب وقيادتها له ، يرى الامريكييون ان ايران تشكل تهديدا للسلم العالمي ودعوا المجتمع الدولي للتحرك وعزل النظام الايراني وفرض عقوبات صارمة عليه .
لا يخفى ان الاشتباك المؤجل بين واشنطن وطهران ، مرده الاشكالات العديدة وخلافات عميقة بين العاصمتين ، منها البرنامج النووي الايراني الذي يشكل تهديدا لحلفاء امريكا وممولي خزينتها في دول الخليج ، وكذلك التواجد العسكري الايراني في الاراضي السورية ، وسيطرة طهران على السياسة العامة وامور دولة لبنان من خلال ميليشيات حزب نصرالله واتباعه من الساسة اللبنانيين الشيعة ، ودعمها العلني لميليشيات الحوثي في اليمن والذي يشل قدرات التحالف العربي في مواجهتها .
لكن التهديدات الشرسة العنيفة ،التي اطلقها كل من وزير خارجية الولايات المتحدة (مايك بومبيو ) ومستشار امنها القومي (جون بولتون ) والمبعوثة الامريكية في الامم المتحدة ( نيكى هالي ) ، تبين ان غضب الولايات المتحدة من كل تلك الاختلافات ليس سبب موقفها المتشدد تجاه ايران في الوقت الحاضر ، وان ما يقال عن خشية امريكا على اسرائيل من ايران ، لا تدفعها حاليا لمثل ذلك الموقف . فوزير الخارجية الامريكي مطمئن من هذا ( التهديد ) الايراني ، وقد فنّد بنفسه خطر طهران على الدولة العبرية ، واستهزأ بدعمها مبينا ان ايران لم تقدم اكثر من (20) الف دولار للفلسطينيين ، فيما صرفت المليارات على ميليشياتها الارهابية على حد وصفه.
ما يمكن ملاحظته من خلال التصريحات والمواقف الامريكية التي ازدادت حدّة في الاونة الاخيرة ، تعود الى ان البيت الابيض ممتعض بحنق ،ومصاب بحالة من الهيستيريا من تفوّق ممثل (الخامنائي ) ، جنرال الحرس الثوري ( قاسم سليماني ) على مبعوث الرئيس الامريكي (بريت ماككورك ) في سباق الهيمنة على العراق ورسم ملامح حكومته القادمة ، وتحديد مسارات سياستها المستقبلية . وقد سبق ذلك صرف واشنطن لكل جهودها وامكانياتها واوراقها ، لضمان مصالحها الحيوية في العراق ،وابعاد الجار المناوىء عنها .
فقد نشط ماككورك كثيرا بعد الاعلان الرسمي لانتخابات ايار الماضي ، وبدء المحادثات بين القوى العراقية لتشكيل الحكومة وتحديد الكتلة البرلمانية الاكبر ، المتناغمة مع توجهاتها في تشابك المصالح بين دولها الاقليمية والقوى الدولية العظمى، وقام بزيارات شبه يومية لقادة العراق متنقلا بين بغداد واربيل مصطحبا السفير الامريكي ( دوكلاس سيليمان )، ناشدا وهادفا اقناع القوى العراقية ، الكردية والسنية والشيعية ، بمنح ( حيدر العبادي ) الولاية الثانية وتنصيبه مجددا رئيسا للوزراء ، ولم يتورع العبادي عن ( رشوة ) الامريكان بالاعلان عن التزام حكومته بالعقوبات الامريكية على ايران ، الحالية منها والمنتظرة ) واوقف التعامل معها بعملة الدولار التي كانت ايران تسحبها من الخزينة والاسواق العراقية بيسر وتسهيلات وطرق متعددة . الا ان العبادي واجه رفضا قاطعا من كردستان لاستخدامه القوة العسكرية ضدها وتردده في الايفاء بالتزاماته الدستورية تجاهها، كما ان خصومه الشيعة نشطوا في تشتيت قائمته الانتخابية وغربلتها ، وكّفت قائمة مقتدى الصدر( السائرون ) عن تأييده له وانسحبت من التحالف الهش معه بعد احداث البصرة وانتفاضتها ضد القوى المعممة واستهدافها لمقراتها ،وفشل حكومة العبادي في مواجهتها . كما شاعت انباء انزعاج المرجعية الشيعية عن ادائه ، وراجت مقولة خطباء السيستاني ( المجرب لا يجرب )، ثم تواردت الانباء عن رفض المرجعية الصريح لعدد من السياسيين وتحديدهم بالاسم ، ومنهم العبادي . واطلق زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الرئيس ( مسعود البارزاني ) تصريحاته الواضحة المتضمنة ان شعب العراق عاقب ساسته الذين استخدموا القوة العسكرية ووقفوا بالضد من طموحات الكرد ، رافضا كما يقال التحالف مع قائمة النصر بزعامة العبادي. فأنزوى ماككورك جانبا وادرك اليقين ان فرصة تنصيب العبادي قد تبخّرت ، ولم يجد نفعا للاستمرار في الدعوة لولاية اخرى له ، مقتنعا ان (قاسم سليماني ) قد كسب الجولة بمهارته او بما لديه من اوراق وقوى تدرّبت في ايران وتدين بالولاء لولّي الفقيه ومرجعية (قم ). بعدها جاء انتخاب ( محمد الحلبوسي ) رئيسا لبرلمان العراق بجهود ودعم قائمة ( المالكي والعامري ) والتي يتبناها ( سليماني) واحرز فوزا على منافسيه السنه ممن يوالون واشنطن و على خلاف مذهبي وقومي مع طهران ، كما اشيع ان انتخاب النائب الثاني لرئيس البرلمان كان بدعم المعسكر الايراني ايضا .مما يعتي ان اغلبية رئاسة البرلمان قد انحازت الى غريمه سليماني . وبذلك ادرم ( ماككورك) ان ( سليماني ) يمسك برأس الخيط في بغداد واربيل وان حلبة المصارعة بينه وبين جنرال الحرس قد تشهد سقوطه الحتمي .
مرة اخرى وانقاذا لماء الوجه ، وربما للتخفيف عن غضب رئيسه ، حطّ ماككورك في بغداد ، عسى ولعل ان يحقق بعض النجاح في اختيار ( موال ) امريكي لاخر الرئاسات الثلاث ، فزار السليمانية واربيل واجتمع باكبر عدد من القيادات الكردية ، ويقال انه مارس (الترغيب والتهديد معا ) لحمل هذه القيادات على ترشيح ( برهم صالح) لرئاسة الجمهورية ، وهو اضعف الايمان ، بعبارة اخرى ، ان لم يعد (صالح) مواليا امريكيا ، بسبب تقربه من طهران في الاونة الاخيرة ووصفه القوى الكردية المعارضة في ايران بالجماعات الارهابية ، واضفائه المشروعية على العملية العسكرية الايرانية ضد هذه الجماعات ومعسكراتها في مدينة ( كوى ) داخل الاراضي الكردستانية العراقية ، فلا بأس به في نظر الامريكان بسبب الصداقات القديمة لصالح معهم واقامته في امريكا لفترة طويلة . لكن يبدو ان سليماني لا يكتفي بترنحات ماككورك ، انما يبغي نحره تماما ، فأتخذ الجنرال من بغداد مسكنا له ، كما يقول الامريكييون ، وتم رفض مرشح الاتحاد الوطني من قبل اكبر حزب كوردستاني ، هو الحزب الديمقراطي الذي يقال عنه ، انه يشعر بغضب تجاه ماككورك لموقفه من استفتاء الاقليم في العام الماضي فبادر الى اصلاح علاقاته التاريخية مع طهران ، فألقى هو الاخر مرشحا له لرئاسة الجمهورية ، كما ان عدد من الاحزاب الشيعية لم تقبل بصالح على علله وهي تفاوض الحزب الديمقراطي حول مرشحه . واذا صحّ العمل بمقولة المرجعية ( لا يجرب المجرب) فيكون صالح مشمولا بها باعتباره مجربا كونه كان نائبا لرئيس الوزراء العراقي ، مما يجرده الفرصة تماما للفوز على مرشح الحزب الديمقراطي .
واذا اقتنعنا ، بما سرّبته بعض المواقع الاخبارية ، حول مساندة ( سليماني ) لمرشح الحزب الديمقراطي ( فؤاد حسين ) ، يكون فوزه اكيدا ، ولن يتبقى لماككورك ما يرضي به الادارة الامريكية ويكون قد حصد الفشل تماما وخرج من المولد بلا حمص.
تحمّل الادارة الامريكية ، كما يبدو ، قائد الحرس الثوري ( قاسم سليماني ) فشل سياستها واحباط ممثلها في العراق ، وهي ترى فيه العائق الذي حال دون تحقيق اهدافها في العراق بعد كل التضحيات الامريكية في محاربة النظام السابق و الحرب على داعش ، وانفاقها اموالا طائلة استقطعتها من دافعي الضريبة الامريكيين . وهذا ما يفسر تهديدات بولتون الفريدة لقاسم سليماني ووصفه له بالقاتل ،واعلانه عزم الولايات المتحدة الانتفام منه ، والقول ان امريكا لن تدع ايران تعبث بمنطقة الشرق الاوسط . واخيرا رسالته هذا اليوم للايرانيين ( نحن نتعقبكم وسنحاسبكم ) ولكن الواقع يفصح عن حقيقة ان آذان الجاويدان قد تكون صمّاء .

أحدث المقالات

أحدث المقالات