23 ديسمبر، 2024 9:54 ص

علمية الدولة وفكرية العلم

علمية الدولة وفكرية العلم

من غير المتوقع ان تصير المعضلة بحد ذاتها مشكلة في التوصيف عندما توضع كقاسم مشترك بين الفكر والعلم على نحو خاص، اذ ان حرية الاختيار بين الاثنين لا تبدو عسيرة الا انها في واقع الامر تجاوز حرية الاختيار بالمعنى الكامل للحرية وبالمعنى الواسع للخيار. وفي المقابل تحديد سمة العلاقة او طبيعة العلاقة او حتى شكل العلاقة بين الفكر والعلم ليس متاحاً على قدر متكافئ في الازمة الواحدة على خطين متقاطعين باربع جهات منبعثة منهما. فقد يضمر الفكر ويتسع العلم، الا ان حاصل جمع تأثيرهما يبقى واضحاً في المجتمع بترجيح احدهما على الاخر على اساس الاتساع او الضمور، وقد يضمر العلم ويتسع الفكر ويحصل العكس في التأثير الا ان حاصل جمعها التأثيري يبقى جلياً ومن غير لبس او غموض.
 ان ترجيح العلم على الفكر او العكس، ليس رغبة او ارادة، اذا قصدنا واقع الامة كله، ولكنه ممكن اذا استهدفنا واقع شخص بعينه او شريحة من الناس على نحو مخصوص، اما بالنسبة للشعب الواحد فان الترجيح الواضح في الاطار العام لا يمكن ان يعكس حالة اختيار محدود في السياق الخاص بين الفكر والعلم، ولكي لا نتوغل اكثر في شيء قد يبدو غامضاً فاننا نميل الى جعل الفكر رديفاً لكل عقلي ونظري ومثالي، ونضج العلم في صف كل مادي وعملي وتجريبي، اي انه اقرب الى مفهوم التقنية في الوقت الحاضر.
 من هنا، فقد يلتقي الفكر بالعلم في نقطة او صفحة او مساحة وقد يتقاطع معه في نقطة او مستوى او شكل، بل قد يتوازى معه، فلا يتقاطع ولا يلتقي فيصبح لكل تأثيره المستقل او المعزول عن تأثير الآخر، لا يحجبه ولا يستتر به، ولكن بنسب مختلفة.
 باسقاط هذا المفهوم على الواقع العالمي المعاصر، يمكن تصنيف الدول او مجتمعاتها على اساس الترجيح بين الفكر والعلم بنسبة خطأ محدود وبنسبة صواب عالية. ولكننا لا نستطيع نفي احدى الظاهرتين الملازمتين للانسان منذ اول وجوده وعلى صيغ اخرى بسيطة في اي مجتمع او دولة في العالم المعاصر نفسه، اذ بهذا النهج نكون في موضع الاجابة على سؤال كيف؟ اما مناقشة الاجابة في ظل سؤال لماذا؟ فان الموضوع يتشعب ويطول وان كانت الاستحالة او الصعوبة بعيدتين عنه.
 ولو تقدمنا بالسؤال: هل الولايات المتحدة الامريكية دولة فكر ام دولة علم، بمنظورنا اعلاه؟ فان الجواب في الاحتمال الاكبر بين اكثر الناس يصير: انها دولة علم. قد يكون هذا الجواب تحت تأثير الدعاية التي تجعل من العلم الامريكي اسطورة، وهو متقدم من دون شك، ولكن لماذا ينزاح الفكر من التوصيف الامريكي؟ أليس في الولايات المتحدة اكثر من خمسمائة فيلسوف حسب احصاء نهاية التسعينات؟ ألا يعمل هؤلاء في الحقل الفكري والمعرفي العقلي في الاقل؟ مع ان الوطن العربي لم يقدم حسب الاحصاء نفسه فيلسوفاً واحداً بل قدم مثقفين يعملون في حقل الفلسفة، فهم اقرب الى المفكرين او هم المفكرون حقاً، الا انهم ليسوا فلاسفة بحال.
 وعندما توصف الولايات المتحدة بالعلم دون الفكر، فإننا نرى في ذلك وصمة لا تدعو الى الفخر بالمعيار الذي بدأنا به، لأن الدولة العلمية تدفع انجازاتها المتحققة الى جانب مادي يفتقر الى الغائية المثلية التي تغطي وجود الانسان وكينونتة وعلاقاته وتطلعاته المشتركة.
وعندما نتحول الى امة العرب ووطنها المعاصر برغم تمزقه وتشرذمه، فان سمة الفكر تغلب على سطحه الاجتماعي ورأسه السياسي وجسمه الاقتصادي. ربما لاسباب متوارثة عن اجيال الحضارات العربية ، ان لم يكن في جميعها ففي بعضها المهم، ولكن ليس بعيداً عن ذلك او منفصلاً عنه ابداً، بل ان اقصى العقائد السياسية علمية في الوطن العربي لا ينفصل عن الجانب الفكري الحضاري السابق للامة في ادبياته الفكرية وبرامجه السياسية ومنطلقاته الاقتصادية، فيجعل هو والعقائد السياسية الاخرى الاقرب الى النزعة الفكرية المثالية، من القيم الاخلاقية في الانسان غاية فيه ووسيلة اليه، ومن غير الممكن ان يتنكر للعلم واهميته الانجازية والتنموية والحياتية بكل وقائعها، اي ان العلم تابع متغير، والفكر تابع مستقل، وهذا صحيح طبقاً لحاجة الانسان الفعلية على سطح الارض، فلو تركنا العلم يتقدم من غير ضوابط فكرية فان الهلاك لا شك يحل بالحياة باسم الحياة والحفاظ عليها، الا ان استعمال علامة المنع هنا والسماح هناك واشارة الصواب هنا والخطأ هناك، باسناد قانوني ردعي يبقي العلم في دوائر افق الفكر ابداً، واذا كان الفكر انشطة – ملكات ولغة واسلوب ومضمون عقلي نظري تجريدي- فان العلم انجازات- انتاج وخدمات وقتال وعلاج ووقاية ميدانية وعملية – واذا تقاطع الفكر مع العلم في حالة ما او موضوع ما، هو في معضلة ما، فان الترجيح بينهما يتعرض الى ازمة او الى اضطراب يفضي الى خسارة محددة لأحدهما بسبب الآخر.
 ولكن كيف يتعرض الفكر الى اضطراب او ازمة؟ وهل نحن نستطيع تشخيص ازمة العلم واضطرابه؟
 ان سقوط الفكر في ازمة او اضطراب يتحقق عندما ينقاد الى العلم، كما نضع العربة امام الحصان، والغريب في الامر ان من يجعل عربة العلم امام حصان الفكر هم السياسيون . السياسيون الذين يمتطون صهوة الفكر بنجاح ثم ينحرفون به صوب الهلاك بعد ان يفلت امام العلم ليهلك الحرث والنسل فيصبح الفكر في خبر كان.
 لقد قدم الفكر الامريكي ادبياته الانسانية، وافرز قادة للتحرر الوطني، ولكنه سقط في قبضة العلم بتأثير السياسة والسياسيين، فألقى قنبلتين نوويتين على مدينتين يابانيتين وازال بذلك قيادة الفكر للعلم بقرار متسرع. اما بالنسبة الى الامم الاخرى فقد تراجع الفكر مرات عديدة امام العلم في الحروب العظمى والاقليمية والمحلية على نحو خاص الا انه بقي يحمل لواء التصدي للنزعة العلمية المطلقة او المفتوحة، بل حتى في الولايات المتحدة نفسها لم يختف صوت الفكر ولم يختف المفكرون، الا انه طوفان العلم والعلماء وزخم الانجاز التقني- اقتصادياً وتجارياً- جعل من تأثير الفكر مسألة غير حاسمة ولا جديدة بتمثيل العالم داخل الولايات المتحدة.
 وفي الجانب العربي بازاء اسرائيل، ثمة مواقف عالقة بين الفكر والعلم هي ليست من صميم التناقض او التضاد، الا انها ليست من اصل التوافق او التطابق عندما تفترق او تلتقي مع العالم الثالث او الثاني او الاول على سبيل المفارقة. فعندما تتصاعد القوة الاسرائيلية الى درجة الردع النووي الشامل والواسع من غير ان يكون للفكر دور في تحجيمه او تقليصه او تغيير وجهته في الاقل، فان من غير المعقول ان يبقى العرب امة فكر يقود العلم سواء في وضع القدرة ام في واقع الاستثناء. انما هناك مبدأ التوازن في القوى بين الاطراف المتصارعة على الارض. والمبدأ نفسه في الكون كله:
التوازن الجذبي لأن هيمنة العلم بفكر عنصري وعدواني لا يعني الا دمار الخصم وهلاكه بعد حين. والعرب في سعيهم العلمي المتقدم يدافعون عن فكرهم اصلاً وعن وجودهم ثانياً وعن التراث الانساني باسره ثالثاً، وانهم مستعدون الى التخلي عن العلم المتقدم اذا تحقق العدل واعيدت الارض واستقل الانسان العربي على ارض فلسطين، لانهم ليسوا في حاجة الى قنبلة نووية، عند ذاك، الا اذا حاول الآخرون اقتفاء اثر اليهود في تهديد الامن القومي العربي من اقصاه الى اقصاه.
هنا يتبوأ الفكر منزلة الغاية ويحتل العلم مرتبة الوسيلة وهذا صحيح بل يمكن لاية امة ان تجعل من هذه النتيجة برنامجاً لها، فثلاثي الصين والهند وماليزيا، وهي دول يغلب فيها الفكر العلم على نحو واضح في تاريخها العريق، نجدها لجأت الى العلم لتحمي به فكرها ووجودها وانسانيتها، كل بمنظوره الخاص. ولو تعرضنا الى هذا المنظور من زواياه الثلاث لوجدناه في آخر الامر منظوراً واحداً ولكن موقعه متغير. وبمجرد ازالة الحاجز النفسي بين الاطراف الثلاثة ينتهي كل خطر.
ان مسك عصا العلاقة بين الفكر والعلم من نقطة التوازن صار من الاهمية بمكان بحيث ان اي خطأ او عثرة تدفع الماسك الى السقوط مع العصا في دهليز الهلاك المظلم. الا ان نقطة التوازن هذه ليست في الوسط دائماً وتلك هي المشكلة الفيزيائية العويصة في عالم السياسة المعقد، بأن يبحث السياسي عن نقطة التوازن فيلقي القبض عليها بقوة وثقة ثم يستمر في معادلة اخضاع العلم الى الفكر على نحو لا يكسر العصا ولا يدفع بها الى الانزلاق من بين يديه، وانها لمهمة صعبة بحق، اذ يكفي الانتباه اليها ان يتطلب جهداً ذهنياً وعصبياً هو عشر معشار الجهد الذي تتطلبه مسألة التعامل بها ومعها عملياً.
[email protected]