يطرح المتظاهرون في العراق مصطلح الدولة المدنية في شعاراتهم فيما يتهمهم البعض من رجال الدين بأنهم يريدون أن دولة علمانية. لقد سبق العراقيون في شعاراتهم المصريون ومن قبلهم التونسيون أيضا ً في طرح شعار الدولة المدنية إلا أن طرح فكرة الدولة المدنية في المجال العام لازال غامضا ً ومبهما ً وفيه خلط كبير مع فكرة العلمانية. لست هنا بصدد الشرح المفصل بين فكرة الدولة المدنية والعلمانية فيوجد هناك من المراجع الكثيرة التي توضح ذلك مع أن ذلك لاينفي القاء الضوء على الفرق بين الفكرتين من أجل توصيل فكرة المقال. في المقابل, على من يتصدى للعمل السياسي بطرح مشروع الدولة المدنية أن يوضح ذلك ويشرحه من أجل التداول والنقاش الخاضع للنقد والتحليل لسببين رئيسيين, الأول هو توضيح فكرة الدولة المدنية كمشروع لكل الذين يخرجون في المظاهرات إذا ما فهمنا بأن غالبيتهم خرج من أجل توفير الخدمات وليس لتأييد مشروع سياسي معين, والسبب الثاني هو كسب الأنصار أو الفئة الصامتة الذين لاينتمون لأي تيار سياسي من خلال تبديد المخاوف عن فكرة الدولة المدنية لايسيما أن هناك من يشيع بأن الدولة المدنية يقصد بها العلمانية وهي بالضرور متصلة بالثقافة الغربية التي تعتبر كافرة في نظر البعض. إذن, لابد من توضيح مامقصود بالمدنية من خلال إزالة الغبار عن الفكرة.
الدولة المدنية ليست هي العلمانية وإن كانت العلمانية شرط من شروطها. العلمانية بأنواعها المختلفة ترتكز بالعموم على فصل المؤسسة الدينية عن الدولة ومؤسساتها, فلاتعني العلمانية, بالخصوص الناعمة منها, فصل الدين عن المجتمع, فالمجتمع حر في تدينه لكن في العلمانية لادور للمؤسسة الدينية في عمل المؤسسات الرسمية وبهذا لايمكن للدين بمرجعيته الميتافيزيقية أن يهيمن في نفوذه على مؤسسات الدولة التي تعبر عن إرادة الجماهير والحد الأدنى من التوافق المجتمعي المستند على مرجعية تجريبية, ولايمكن أيضا ً للنفوذ السياسي أن يستخدم الدين من أجل الوصول إلى السلطة. أما المدنية فترتكز بإختصار على عدة أسس أولها أن لاحق فوق حق المواطنة, فالمواطنة هي القيمة المقدسة التي لاتعلو عليها التبعية العرقية أو الدينية أو الطائفية أو الطبقية أو الجنس, الكل متساوون في الحقوق والواجبات إضافة للإعتراف بالهوية الشخصية والاجتماعية مع روح المشاركة السياسية والمجتمعية. ومن ركائز المدنية هي التعددية والإعتراف بالهويات العرقية والثقافية ولكن بشرط أن لايصطدم ذلك مع مبدأ المساواة أمام القانون وحق المواطنة. أما الديمقراطية فهي آلية للتوافق المجتمعي على طريقة إدارة الدولة أو الممارسة السياسية. فليس كل دولة علمانية مدنية مئة بالمئة ولكن لابد للدولة المدنية أن تكون علمانية لأن مبدأ نفوذ المؤسسة الدينية سيقوض فكرة المواطنة التي تستند إلى القانون على اعتبار أن الدين له تصنيفاته الخاصة المستمدة من الإرث التاريخي والراسخة في كتب الفقه والعقيدة من أحكام وفتاوى والتي تتنافى مع فكرة المواطنة. فالدين يفصل بين المؤمن والملحد والكافر والمشرك والكتابي وغير ذلك وكل له أحكامه الخاصة فقهيا. ولابد من الإشارة أن هناك الكثير من الدول العلمانية والتي ترفض الحقوق المدنية لفئة من مواطنيها كالولايات المتحدة وجنوب أفريقيا في وقت ما واللتان كانتا تمارسان التمييز العنصري ضد السود وترفضان حقوقهم المدنية مع أنهما دولتين علمانيتين.
ولكن, هذا على المستوى المؤسساتي, أما على المستوى المجتمعي فلابد من ثقافة مدنية تندمج مع التجربة الذاتية والجمعية في الحياة اليومية لأفراد المجتمع من أجل الوصول وترسيخ فكرة المواطنة للفرد. تعتمد تلك الثقافة على عدة مبادء أولها, نشر ثقافة الديمقراطية والمساواة والتسامح والإعتراف بالآخر وغيرها. ثانيها, التوافق على الحد الأدنى من المبادء فيما مسموح وغير مسموح والقائم على الثقة المتبادلة بين المواطنين. ثالثها, نشر المعرفة التي تطور مهارات التواصل الاجتماعي بين المواطنين
ليكونوا قادرين على المشاركة السياسية والمجتمعية. رابعا, إعداد برامج لتطبيق تلك القيم ودفع المواطن بإتجاه تطبيقها. خامسا, الحفاظ على الهويات الفرعية بالإعتراف بها ضمن أطار التعددية وقبول الآخر. وأخيرا, فتح المجال العام أمام الأفكار والممارسات الفردية والجمعية لترسيخ فكرة التداول والفعل التواصلي والتفاعل بين أفراد المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب والمؤسسات الثقافية وغيرها دون احتكار ذلك المجال من قبل الدولة أو بعض الفئات المهيمنة.
إذن, لابد من فتح باب الحوار والنقاش من قبل اللجان التنسيقية مع الجماهير لتوضيح فكرة الدولة المدنية ولابأس من فتح باب ذلك الحوار مع المؤسسات المختلفة ومنها المؤسسة الدينية لرفع الغبار عن الشكوك التي تحوم على الشعارات المطروحة. ولابد أيضا ً من مشاريع ثقافية تدعو إلى الثقافة المدنية مادام الذي يبدو أن طريق المظاهرات سيكون طويلاً جداً بوجود معوقات كثيرة قد تعيق عملية الاصلاحات لفترات طويلة جداً. أن طرح فكرة الدولة المدنية من قبل الناشطيين المدنيين والمجتمعيين والسياسيين كفكرة أصيلة, وليس كفكرة بديلة لمشاريع صاحبها الفشل سيعزز حظوظ فرص التغيير المجتمعي قبل أي فعل سياسي محتمل. أن فكرة الدولة المدنية هي أكثر الأفكار إنسجاما ً مع مبادئ الدستور العراقي وأكثر وضوحا ً في مايخص مستقبل العراق السياسي والثقافي والاجتماعي والذي يحفظ ذلك الموزائيك المتنوع في النسيج الاجتماعي الذي أصابه التصدع من تعدد الأزمات. لكن, لابد من توضيح تلك الفكرة التي يحاول الخطاب الديني المتشدد ربطها بالكفر والالحاد عن جهل أو بقصد لتفويت الفرصة على أي مشروع يسحب البساط من تحت قدميه.