23 ديسمبر، 2024 3:41 م

“فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفغ الناس فيمكث في الارض”.
إن ما جرى من حراك في ساحة التحرير ببغداد من يوم الحادي والثلاثين من آب المنصرم وما تلاه من مجريات أخر في أيام الجمع المتعاقبة لا يعدو عن كونه يقظة بعد سبات طويل، أو بهاء بعد ظلام دامس، أو سناء بعد عتمة حالكة، نجم عنها اشعال فتيل المظاهرات الشعبية العفوية العارمة من ذلك اليوم والى حتى الساعة، والتي تمددت مساحتها في ذات الحين لتعم جميع محافظات ومدن العراق، خاصة في الوسط والجنوب، وتمددت معها كذلك مطالب المتظاهرين لتأخذ افقا أعلى ومساحة أوسع بما أطلق عليها بالإصلاحات الشاملة والحقيقية، ذات الأهداف الاستراتيجية والمديات المتعددة الابعاد بما يضمن حاضر العراق ومستقبله ويؤمن مطالب الجماهير، ذلك لأن العراق بما فيه خيرات وثروات طائلة وبما يملك من خزائن وموروثات امانة باعناق الشعب وباعناق السياسيين على حد سواء، فإن سكت الشعب وارتضى بالفساد فهذا يعني ودون ادنى شك انه شريك حقيقي للفساد والمفسدين، لذلك تجاوزت مطالبهم حدود هدفهم الأول الذي كان يعتلي لائحة المطالب الشعبية وهو إصلاح الكهرباء وتقويمها بالشكل الذي يلبي حاجات المواطن الانسانية من خلال تغطية أكبر مساحة جغرافية مكهربة بالبلد، وبأطول فترة من التجهيز، وبأقل عدد من ساعات القطع المبرمج.

  والمطلب الأساسي التكميلي الآخر هو ابعاد الفاسدين والمقصرين من وزارة الكهرباء ومؤسساتها ومحاسبتهم، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وإعادة المبالغ المنهوبة والمسروقة لصالح الوزارة، هو ذا كان المطلب الأساسي للمتظاهرين بادي ذي بدء.

  وقد عبر المتظاهرون من خلال تلك المظاهرات عن مدى سخطهم ونفاذ صبرهم، وعن مدى بؤسهم وحرمانهم من ابسط حقوقهم في بلد نفطي يعوم على بحر من نفط منهوب، وعلى هالة من غاز طبيعي مهدور، وعلى ثروة زراعية وحيوانية مهجورة لو قدر لها أن تستثمر مع ما يجود به الفراتان والسهل الرسوبي والسواعد السمر التي أجبرتها حماقة ساسة العراق الذين تناوبوا على حكمه بأن يزجوا اسمائهم في قوائم العاطلين عن العمل للحالة التي وصلوا اليها أن يستجدوا رواتبهم الشحيحة من ما يسمى برعاية العاطلين عن العمل والرعاية الاجتماعية التي تمنحهم عن كل موسم راتبا بما يساوي ال “فلس ونص” والتي نافسها عليهم وللأسف الشديد بعض الأغنياء والتجار وارباب العمل من ذوي النفوس الضعيفة ممن انتحلوا صفة الفقر والعوز، بينما استبعد منها ذوي الحاجات الحقيقية، وهذا ظلم آخر يضاف لمظلومية هذه الطبقة المعدومة.

  ولو أن القائمين على سياسة العراق اعتمدوا مبدأ تنويع مصادر التمويل المالي والاقتصادي للدولة، لصار العراق من أحسن الدول المنتجة، ولأصبح هو سلة المنطقة الغذائية.
  ولم يتوقف الأمر على هذا الهدر الاقتصادي والبشري بل تعداه إلى تحطيم وشل القطاع الصناعي والذي أصبح بعد الاحتلال أثرا بعد عين، ولو أنهم إهتموا باعتماد الصناعة بقطاعاتها الحكومي والمختلط والخاص وتأهيلهم له على وفق التطور الصناعي والتكنولوجي العالميين، لصار العراق مصدرا صناعيا مهما، حتى وإن لم يصدر للخارج فالاكتفاء الذاتي للبلد هو سيكون السمة المميزة له، ولكن بفضل هذه الحكومات صار العراق أكبر مستورد ومستهلك للمواد الزراعية والحيوانية والغذائية والمنزلية والانشائية والاستهلاكية والكمالية والصناعية ووو, وحتى المنتوجات النفطية بجميع انواعها، ومن أجل ما تقدم قام الشعب متظاهرا ليوصل صوته عبر هذه البوابة المكفولة دستوريا.

  ولكن، يبدو للرائي أن تراجعا ملحوظا قد بدا على هذا الحراك وعلى وجوه وعديد المتظاهرين خاصة، وهذا الأمر أعزو سببه بالدرجة الاولى لتباطؤ السيد العبادي في انجاز الإصلاحات الحقيقية التي ينتظرها المواطنون بفارغ الصبر لتثلج صدورهم ، وهي النقطة الأهم التي أكدت عليها المرجعية الرشيدة بخطبة صلاة يوم الجمعة الأخيرة من داخل الحرم الحسيني المقدس، بواسطة ممثلها الشيخ عبد المهدي الكربلائي، مخاطبة فيها السيد العبادي بهذه العبارة التي اقتطفتها من أصل ما بث ما نصه: “ تنفيذ الإصلاحات بوتيرة أسرع”.

  وقد تزامن خطاب المرجعية هذا مع تباطؤ السيد العبادي في تنفيذ الإصلاحات الاستراتيجية، ومع انخفاض وتيرة موجة الانتخابات بسبب الفراغ الذي تركته هيئة الحشد الشعبي عندما قررت الانسحاب المؤقت من المشاركة بالتظاهرات، وهو السبب المباشر في الانخفاض الواضح في اعداد المتظاهرين، وهذا كله دليل قاطع على مدى درجة قوة الثقة العالية التي يوليها الشارع العراقي بمرجعيته الرشيدة ومطالباتها الجلية التي تعبر عن تطلعات جميع الناس في العراق وبمختلف اثنياتهم.

  والسبب الثانوي الآخر يكمن في تفاوت المطالب واختلاف مصادرها، وجلها كان يتأرجح بين ماهي دينية وأخرى علمانية، أما التسقيط الشخصي لبعض المسؤولين والموظفين قد اخذ مساحة واسعة من أهازيج وشعارات بعض المتظاهرين الأمر الذي ساهم في انتزاع هيبة المتظاهرين وغياب روح الانصاف، يقابل هذا الفعل أن البعض من المتظاهرين تجلى بروح الصنمية من خلال تبجيل اشخاص وتعظيم إنتماءات حزبية واثنية، كما لم يأخذ بعض المتظاهرين بنظر الاعتبار واقعية المطالب ومدى امكانية تنفيذها من قبل الحكومة بل ذهبوا إلى ماهو أبعد من ذلك كأن تكون المطالب تعجيزية ومستحيلة التنفيذ، أما الأسباب الاخرى فتنحصر بين هجرة نخب الشباب نحو الغرب، وبين دخول المندسين في حافلة المتظاهرين، بينما يحتل السبب التالي المكانة الاولى في مجمل جميع الأسباب الا وهو العجز الاقتصادي والأزمة المالية التي يعاني منها البلد لأنه المحرك الاقوى والأكبر أهمية، ولأنه هو الذي يدفع بإنجاز مطالب المتظاهرين في الاصلاح.

  كل هذه الأسباب وأسباب أخرى صفقوية أعدت في المطابخ المتربصة خارج الحدود كلها ساهمت مجتمعة بالتأثير على قوة المظاهرات وإدامة زخمها وإفراغها من محتواها، وحرفها عن تحقيق أهدافها الأساسية في الاصلاح ونصرة الشعب المظلوم.

  خلاصة القول فإن الحراك الذي انبثقت بسببه المظاهرات هو كان في حد ذاته أزمة الكهرباء المزمنة، ونقول في هذا على سبيل المثال وليس الحصر: ” إن تعثر الكهرباء بهذا الشكل المحير والمريب، رغم صرف الاموال الطائلة والتي لو احسن تدبيرها وتوظيفها بشكل صحيح يرجى فيه مخافة الله, لجهزت دولة كبيرة مترامية الاطراف مثل الصين والهند وروسيا بالكهرباء وبنواتجها العرضية, وهذا التأويل يأخذنا الى أن هذا التعثر ليس بسبب الفساد وحده فحسب، بل يقودنا الى ماهو ابعد من ذلك كأن يكون أن في القضية قرار سياسي مبيت الا وهو “ان لا كهرباء للعراق والعراقيين” والى اجل غير مسمى لا يعلمه الا الله والراسخون في العلم”، وقولنا هذا يصح تعميمه على بقية الخدمات المتلكئة والتي لها مساس مباشر بحياة المواطن العراقي الذي ذاق الأمرين بسبب طبيعة نظام الحكم الذي أسس له الدستور بطريقة لا تتلائم مع أرض وواقع العراق، البلد المثقل بالأزمات والمنكوب بكثرة الجراحات.

  وأخيرا فالمظاهرات وإن لم تحقق أهدافها افتراضا فهي بحق “علامة فارقة” في تاريخ العراق آلسياسي، وعلامة مميزة في حياة الشعب العراقي العريق وتأريخه الكفاحي والسياسي والاجتماعي، وعلامة وثقى تروي للأجيال القادمة عن مدى حجم معاناة هذا البلد الجريح ومظلومية أبنائه الصابرين، وأما الإصلاحات التي انطلقت من أجلها المظاهرات سواء انجزت أو لم تنجز، ففي كلا الحالين هي ارادة، وحضارة، وثقافة، وتاريخ، وتمدن، ووعي، ومنهج، وخطوات عملية، تتداولها الأجيال جيل عن جيل، وآب عن جد.
ويبقى تقييم الرجال الذين وقفوا على رأس هرم الحكم في العراق في جميع مراحل الحكم وبجميع المفاصل والحلقات السيادية والحكومية المتعلقة بالدولة، وكما سيرويه التاريخ والتواترات عنهم ان كان خيرا او شرا، او ان كان قد وقع ضمن دائرة محبة الرعية لهم او بغضها عليهم بحسب طبيعة اعمالهم وسلوكياتهم معها، هومصداق قول رسول الله الأكرم (ص): “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم”.
(صدق رسول الله).
والحمد لله رب العالمين.