” يوجد عدد من الفلاسفة العظماء حقا، وأيضا عدد قليل من الفلاسفة الذين يثيرون الإعجاب حتى وإن لم يكونوا مبجلين في الواقع”1[1]
لقد اشتهر كارل بوبر بمناهضته للتيار الوضعي المنطقي في كتابه “منطق الكشف العلمي” وتنديده بعقم المنهج التاريخي في كتابه “المجتمع المفتوح وأعدائه” وانتشرت فكرته عن الدحضانية في عالم الثقافة ودنيا المعرفة ولكن إسهامات الإبستيمولوجي الألماني في المجال الفلسفي ظلت مطمورة وجرأته النقدية بقيت مهملة ووضعها مؤرخو الفلسفة خارج الخدمة وأُدرِجَ اسمه ضمن الموجة الريبية من مؤرخي العلم.
من المفترض أن تكون المقاربة الإبستيمولوجية لتاريخ الفلسفة التي أنجزها بوبر ناجعة وترتبت عنها المراجعات الجذرية في الاتجاهات المعاصرة له وأثرت على شبكة العلاقات المفهومية بين العلم والفكر واللغة. لقد طرح في كتابه غير المعروف “في البحث عن عالم أفضل” أسئلة خطيرة على شاكلة: كيف أتصور الفلسفة؟2 [2] هل ينتمي كارل بوبر إلى الجماعة الفلسفية الأكاديمية أم أنه يدعو إلى الاستعمال العمومي للفكر الفلسفي؟ وهل هو متفائل بخصوص إيجاد حلول للمشاكل المعالجة أم أنه متشائم حائر؟ وما الذي يتعين على المرء أن يفعله في مواجهة فلسفة تثير الحزن إلى هذا الحد؟ وما العلاقة الواقعية والممكنة بين الفلسفة والحس المشترك؟ وكيف ترتبط المصالح البشرية بالأهواء الطبيعية؟ وأي دور للنظريات العلمية في بناء الأنساق الفلسفية؟ ولماذا يخضع بوبر النشاط الفلسفي إلى النقد؟ وما قيمة نظرية المعرفة التي تتحرك ضمنها الفلسفة الوضعية؟ وأين يمكن العثور على الحقيقة؟ وهل الإنسان قادر على بلوغ المعرفة؟ والى أي مدى تساعد ملكات المعرفة الإنسان على إدراك الحقائق والوقائع؟
لقد ناقش فيه علاقة الفلسفة بالحس المشترك من جهة وبالمعرفة العلمية من جهة أخرى. ولقد وجد نفسه بين موقفين: الموقف الأول يعتبر كل الناس فلاسفة ويقرب التفكير الفلسفي من الحس المشترك، والموقف الثاني يعتبر الفلسفة اختصاصا أكاديميا لا تقدر عليه العامة ويقتصر على عدد قليل من النخبة.
لقد اعتقد فريدريك وايزمان أن الفلسفة شيء خصوصي وأن الفلاسفة نمط مميز من الناس ينشغل بالتفكير ويدرك الأوجه الخفية من بنية أفكارنا ويعمل على تحديد أسس المعارف ويؤسس الأنساق ويهتم بصناعة العقل بطريقة حرفية بالمقارنة مع نمط من الأكاديميين الآخرين على غرار الفيزيائيين وعلماء الرياضيات وحجته على ذلك أن أساطين الحكمة في الماضي اكتسبوا قيمتهم وشهرتهم من نشاطهم الأكاديمي وصناعتهم العقلية والتناغم بين سيرتهم الذاتية في الحياة اليومية ونشاطهم الأكاديمي والعلمي وحولوا الحماسة التي يشعرون بها عند تواصلهم إلى جسد الجماعة الفلسفية وروح ضميرها اليقظ دائما.
على خلاف ذلك يتصور كارل بوبر الفلسفة بشكل مغاير تماما ويعتبر جميع الناس فلاسفة بصورة وبأخرى ويعتبر الجماعة الأكاديمية التي تعتني بقضايا الفكر وشؤون الفلسفة فاقدة الحماسة والحيوية وغارقة في النظريات والمجردات وتحتاج إلى وعي ذاتي ومراجعة كلية وتحديد مهام في عالم التجربة.
بناء على ذلك ينقد بوبر الفلسفة الأكاديمية والفيلسوف النظري الذي ينتمي إلى نخبة فكرية تجعل من تحليل لغة العلوم إلى قضايا واللعب بالكلمات وإحصاء المعارف وتبويب المناهج وضبط المفاهيم شغلها الشاغل. ويبرهن على ذلك بتنصيصه على أن الفلسفة بالمعنى الحقيقي للكلمة لم تكن نتاج التخصص الأكاديمي على غرار اللوحات الفنية التي يشكلها الفنانون المهرة وإنما ثمرة ثورة علمية تعصف باليقينات المعتادة.
لقد اتضح للعيان بأن الأكاديمي يتعامل مع الفلسفة بوصفها تخصصا ومهنة وليس فن تفكير وتدبير حياة بينما فلسفة الفلاسفة تنبثق من الحس المشترك وتنمو في الساحات والشوارع وتنتشر بين عامة الناس.
لقد نهض أفلاطون في أثينا من أجل إعادة الاعتبار إلى سلطة الكلمة وحكم صوت العقل والحياة التأملية وأضفى مشروعية على الجدل ومنح الحكمة حق الوجود في المدينة وجعل من التفكير حاجة اجتماعية.
لقد وضع الفيلسوف الأثيني نفسه على ذمة الدولة وتعامل مع نفسه اعتباره مواطن يحترم القوانين ورسم حدودا معلومة للمعرفة وأخضع معتقداته السياسية إلى النقد والتعديل ودعا إلى إتباع الحكمة العملية في تنظيم شؤون الناس. كما حول دفاعه المستميت عن أستاذه الروحي سقراط إلى مرافعة دائمة على الفلسفة وسعى إلى إثبات حضورها القوي في المجال الثقافي وأصالة النص الفلسفي وفرادة الطريقة الفلسفية في التساؤل ومعالجة القضايا والمشاكل3[3]. بعد ذلك يعتبر كارل بوبر بعض الفلاسفة أفلاطون وهيوم وسبينوزا وكانط قد هبطوا بثقلهم على الوعي ومارسوا تأثيرا حاسما على حضور الفلسفة في الحياة البشرية.
لقد أعجب كارل بوبر بتصور أفلاطون للحياة الإنسانية وقدرته على افتكاك مكانا في الشارع والتحول إلى شاعر ملهم ومحام ناجح في الدفاع على الحق في وجه الباطل والمرافعة على العدل في وجه انتشار الظلم.
لم يكن أفلاطون أعظم وأعمق وأذكى فيلسوفا فحسب بل أسس مدرسة فكرية انتشرت في جميع أروقة الثقافة وصمدت في وجه التاريخ وذلك لهول الأسئلة التي طرحها وتشكيكه في معظم الأجوبة المقترحة.
غير أن العيب الذي وقع فيه أفلاطون حسب بوبر هو خروجه عن المنهج السقراطي العمومي وتبنيه نظرية النخبة الفلسفية وتبريره تحول الفيلسوف إلى رجل دولة ودكتاتور مطلق وبالتالي يكون قد ساهم في ظهور في الكتاب العاشر من الجمهورية لأول مرة المرض المهني للفلاسفة la maladie profrssionnelle des philosophes والذي سمي جنون العظمة la folie des grandeurs .
على خلاف ذلك لم يمتهن دافيد هيوم الفلسفة ولم يعتقد نفسه فيلسوف بالمعنى الصناعي للكلمة ولم يعظم من شأن العقل والذات على عادة الفلاسفة بل رأى أن العقل يجب أن يكون عبدا للأهواء وأن الإنسان لا يقدر على انجاز شيئا عظيما إلا إذا استثمر الطاقة الهائلة التي تتميز بها الأهواء وحولها إلى قوة إبداعية. لهذا إذا كانت قدرة العقل محدودة فإن طاقة الأهواء هو الأمل الوحيد الذي تبقى للبشرية لكي تبدع وتتقدم.
لم يمتهن القديس سبينوزا الفلسفة أكثر من أفلاطون وهيوم بل تبني معنى مضاد للحداثة وصاغه في نظرية عقلانية خطيرة ترتكز على إيتيقا ترفض حرية الاختيار وتقييد الإرادة وتؤمن بالحتمية الكونية.كما ميز بين الأهواء السلبية والأهواء الايجابية وتفطن إلى إمكانية تطابق الأهواء الواضحة والمتميزة مع بواعث الفعل وتلازمها مع نظام العقل وقدراته على التفكير وعلى وضع القيم وفق القانون الموحد للكون.
يبقى عمونيال كانط هو المفكر النادر والأصيل الذي امتهن الفلسفة بشكل رسمي وحاول الخروج من الورطة التي سببها كل من هيوم وسبينوزا وهي خدمة العقل للأهواء عند الأول والحتمية الكونية عند الثاني ولكن كانط نفسه على الرغم من مجهوداته حسب كارل بوبر لم يقدر على وضع حد للمشكلة. لكن لماذا تظل الفلسفة في وضعية تحتاج فيها قيام أحدهم من أجل أن يدافع على وجودها؟
يبدو أن الهجوم الذي تعرضت له الفلسفة من طرف “حلقة فيانا” مع وايزمان وفايجل وكرافت ونوراث وشليك وكارناب ورسل وفتغنشتاين قد دفع ببوبر لكي يظهر بمظهر المعارض الرسمي لهذه المدرسة الوضعية المنطقية ويعيد الاعتبار للفعالية النقدية ولقيمة النظرية المعرفية في النشاط الفلسفي المعاصر.
” ليس ثمة أي عذر يمنعني من أن أكون فيلسوفا لو لم أدخل في مقارعة مع مشاكل فلسفية جدية ولو لم يوجد هناك أمل في حلها أي ليس ثمة البتة ، حسب رأيي، أي عذر من وجود الفلسفة”4[4].
في الأثناء يقدم كارل بوبر تسع علامات على انتماء النشاط الفكري الذي يقوم به الإنسان إلى المجال الفلسفي ويعتبر هذه الخصائص مكونات لتصوره الشخصي للفلسفة ونظرته إلى الدور المناط بالفيلسوف.
العلامة الأولى:
ليس من مهام الفلسفة إيجاد حل لسوء الفهم بالرغم من أن تقديم حل يمكن أن يكون مرحلة تمهيدية ضرورية للتعرف على أشكال الالتباس والتفطن إلى أسباب سوء الفهم.
العلامة الثانية :
لا يمكن التعامل مع الفلسفة بوصفها متحفا تعرض فيه صور عن العالم بطريقة تجميعية مكثفة وقد يظلم المرء كبار الفلاسفة حينما ينفي عنهم الأصالة ويشبههم بالذين يكتفون بعرض إبداعاتهم الفنية للجمهور.
العلامة الثالثة:
لا يجب اعتبار تاريخ الأنساق الفلسفية على أنه تاريخ حقول فكرية وبنك محاولات لأنواع شتى من الأفكار أين تتمكن الحقيقة من الظهور والتجلي وقد نخطئ في حق فلاسفة الماضي حينما نعتقد في انسحابهم إلى أنساقهم وانطوائهم على ذواتهم والنظر إليهم على أنهم لم يتقدموا ولو خطوة واحدة في اتجاه الحقيقة بالنظر إلى أن كل من فيخته وهيجل على السواء غمرهما حب الحقيقة بصورة أساسية.
العلامة الرابعة:
لا تنحصر مهمة الفلسفة في عملية تحليل كلمات اللغات وتفسير المفاهيم بل إن المفاهيم والكلمات هي أدوات بسيطة لصياغة العبارات والافتراضات والنظريات ولا تقتصر على تحليل الدلالات بطريقة موضوعية بل تبحث بصورة دائمة ودقيقة عن الحقائق الدالة أي النظريات الصحيحة.
العلامة الخامسة:
لا يصير المرء فيلسوفا لمجرد كونه أظهر قدرة على التنبؤ والتبصرperspicace والنظرة الثاقبة .
العلامة السادسة:
لا تشكل الفلسفة طريقة تطهيرية فكرية ونشاط يعطي الناس إمكانية التخلص من المتاهات الفلسفية.
العلامة السابعة:
لا تطمح الفلسفة إلى التعبير بالدقة التامة والصرامة المطلوبة بل تحاول أن تكون دقيقة وصارمة في التعبير عن المشكل الذي تهتم.
العلامة الثامنة
لا تتمثل الفلسفة في بذل الجهد من أجل منح الأسس أو الإطار الدلالي العام لكي تجد المشاكل التي يمكن أن تنبثق في المستقبل القريب أو البعيد طريقها إلى الحل.
العلامة التاسعة:
لا تشكل الفلسفة تعبيرا عن روح العصر فهذه واحدة من الموضات الهيجلية التي ظهرت في تاريخ الفلسفة وصمدت أمام النقد وتوجد موضات أيضا في ميدان العلوم ولكن الفلسفة لا تتبع الموضة بل تحاربها5[5].
مقتضى القول أن ” جميع الناس فلاسفة حتى لو لم يكونوا على وعي بأن يقارعوا بعض المشاكل الفلسفية، وعلى الأقل لم يكونوا بلا أحكام مسبقة فلسفية”6[6]. كما أن الفلاسفة يستقون نظرياتهم من المناخ الفكري الذي يحيط بهم ومن التقاليد التي تأتي إليهم من الماضي عن طريق السرد التاريخي والترسب الحضاري.
لكن ما يثير الاستغراب هو تصريح بوبر بأن كل فلسفة مطالبة بأن تبدأ وتنطلق من وجهات نظر غير يقينية (تخمينية أو ظنية ) يتم استخلاصها من الحس المشترك وتوجد في وضع سابق لا يقبل النقد acritique وتمارس تأثيرا على حياة الناس و. فبأي معنى تكون الأحكام المسبقة الفلسفية خطيرة على موضوعية المعرفة الفلسفية ؟ وهل تمثل إنارة الحس المشترك عثورا على وجهة نظر مجاورة للحقيقة؟
يذكر بوبر جملة من الأحكام المسبقة الفلسفية التي يعدها خطيرة على غرار المعنى العام للحياة الذي يضع مسؤولية قص الأحداث الهامة في عهدة شخص فذ يمتلك خصال بطولية مثل هوميروس سارد حرب طروادة وكذلك اعتقاد المسيحية بأن الشيطان هو مصدر البلاء وأصل الشر في الأرض وتكاثر المفاسد. ومن ناحية أخرى تفسير الماركسية تفشي الحروب والفقر والبطالة بوصفه ثمرة الاستغلال الرأسمالي للعمال وسيطرة الآلة على الأساليب المتبعة في الحياة في مجتمع المصنع وعالم الدعاية والاستهلاك.
كما يلاحظ بوبر وجود نظرية غير قابلة للنقد في المجال السياسي وتفسر وقوع الأزمات والعراقيل بوجود مؤامرة دولية ضد مجتمع دون آخر يقف خلفها عند التخطيط والتنفيذ دوائر متنفذة في الاقتصاد والسياسة.
في هذا السياق يدعو بوبر إلى أن تعتبر الفلسفة نظرية المؤامرة في المجتمع عقيمة وغير دالة وتصدر عن رؤية قاصرة وتصور يخلو من كل قراءة مقاصدية للأفعال الإنسانية ومتأثرة بالتفسير السببي للظواهر الطبيعية. والآية على ذلك تفسير برنارد رسل اندلاع الحروب بجملة من بواعث النفسية منها الوحشية البشرية ولكنه حسب بوبر لم يتفطن إلى أن الحرب في الحقبة المعاصرة تندلع تحت تأثير الخوف من الوحشية، وبالتالي إن الخوف من المؤامرة هو الذي يفضي إلى تجنب قدر الإمكان الحروب والمزالق والأزمات.
بعد ذلك يذكر بوبر حكما مسبقا فلسفيا ثان مشتق من الحس المشترك صاغه هيوم ويتمثل في كون أهواء الناس تحددها مصالحهم وقد تحول هذا الحكم المسبق إلى قاعدة عامة تطبق بصورة آلية والى عادة بشرية. في هذا المقام يناقش بوبر هذه القاعدة ويرى بأنه يمكن الاحتفاظ بمصالح بالرغم من وجود ممثليها ويضع في المقام الأول العطش الطبيعي نحو المعرفة الذي يتفرع عنه الرغبة في معرفة حقيقة الأشياء.
من ناحية أخرى يمثل إجماع العقول المفكرة على المبادئ الأساسية حكما مسبقا من الناحية الفلسفية ويدعو بوبر إلى مراجعته عبر آلية الدحضانية وذلك لأن هذا الإجماع يجعل النقاش العقلاني حول أمر معين مسالة مستحيلة والاستتباعات الحاصلة منه أمرا غير مرغوب فيها ويلقي بالعقل في دوامة عدمية هدامة.
إذا كانت نظرية المعرفة تشكل النواة الصلبة في الفلسفة الأكاديمية التي تحصر النشاط الفلسفي في عدد قليل من النخبة المختصة وتقع فريسة النظرة التشاؤمية والتفسير الريبي للحقائق واليأس من قدرات الملكات الإنسانية على الوصول الى المعرفة الموضوعية فإن الإيتيقا أو نظرية القيم هي قلب الرحى في الفلسفة الشعبية التي أبرمت مصالحة دائمة مع الحس المشترك واعتبرت جميع الناس فلاسفة وحملت بين طياتها نظرة تفاؤلية وتعتقد في إمكانية بلوغ المعرفة الإنسانية درجة الاغتناء وقابلية تطبيقها في الواقع.
من الملفت للانتباه إعجاب بوبر بالحس المشترك والتعويل عليه بوصفه نقطة انطلاق بالنسبة إلى الفلسفة لكن دون تبني نظرة يقينية عن الأشياء والاكتفاء بالتصور الواقعي الذي يثبت وجود المادة في عالم أول ويعتقد بوجود الروح في عالم ثان ويفترض وجود نظريات ومشاكل علمية تمثل إنتاجات الفكر البشري وتنتمي إلى عالم ثالث. ما يترتب عن ذلك هو تبني كارل بوبر للتصور الواقعي التعددي ضمن عقلانية نقدية متصالحة مع الحس المشترك ومتحفزة إلى التدبير الإيتيقي للعلاقات بين البشر داخل الكون.
ترتبط المعرفة عند بوبر باليقين والعلم هو استنتاجي تخميني من حيث نقطة الانطلاق ولكن البرنامج الساذج للحس المشترك وللوضعية لا يصمد أمام الغربلة النقدية التي تبحث عن معرفة اليقين الحقيقي وتعتبر كل من النزعة اللامادية عند باركلي وهيوم وماخ والمدرسة السلوكية المادية عند واطسن وسكينر وريشال ضالة عن الطريق الواثق للعلومية. والسبب هو أن أصل اللامادية يعود إلى الأطروحة الديكارتية واقتران البداية بالأساس الروحي الذي صمد أمام تجربة الشك وبنا عليه ديكارت صرح نظريته الفلسفية وأما بالنسبة إلى السلوكية فإنها تعطي إلى الملاحظة قيمة مبالغ فيها وتمسك نفسها عن استكمال بقية مراحل التجربة من افتراض واختبار واستنتاج وتشيد إيتيقا السلوك على قاعدة هشة للمنعكس الشرطي.
تحاول الفلسفة دون جدوى أن تضع حدا للتأثير الذي يمارسه الحس المشترك عليها وتظل الاستعادة غير قابلة للنقد لنظرية المعرفة التي تستقي مشروعيتها من واقعية الحس المشترك هي المسيطرة إلى حد الآن.
على خلاف الفلاسفة الأكاديميين وجهودهم المختصة في معالجة المسائل المعقدة والمشاكل الدقيقة تتمثل المهمة الأساسية للفلسفة الحقيقية في تأمل الكون بصورة نقدية وتحديد منزلة الإنسان فيه والانتباه إلى خطورة القدرة التي تحوز عليها معارفه والمضار التي يمكن تتسبب فيه السلطة التي يمتلكها ويمارسها.
” كل الناس يكونون فلاسفة بما أنهم يبدون هذا الطرح أو هذا الموقف بالنظر إلى الحياة والموت”7[7]
لقد دافع كارل بوبر على الفلسفة ضد هجمات حلقة فيانا على الميتافيزيقا بالرغم من النجاحات والإخفاقات التي لحقت بالمشروع العقلاني والتجريبي على السواء وجهوده في معالجة المشاكل المطروحة بشكل جيد وأكد على أن الروح النقدية هي لب الفلسفة وذكر النقيصة التي طبعت الفلسفة الإنغليزية مع كل من جون لوك ودافيد هيوم حينما اكتفيا بوضع معان عامة تمهيدية للإيتيقا ولم يحسما أمرهما بوضع أسسها النهائية.
كما ربط بوبر بين حب الحكمة والبحث عن الحقيقة والاختبار النقدي للأطروحات من خلال الالتزام بمبدأ قابلية التكذيب وحمله على الفلاسفة المحترفين والفلسفة الأكاديمية وتقريظه للعلماء وفلسفة الحس المشترك ولهذا كانت حكمته الفلسفية أن الحياة هي التي تجعل من الأرض أفضل وأجمل الكواكب في الكون الفسيح.
في الختام جعل كارل بوبر من الواقعية التعدديةréalisme pluraliste نظريته الفلسفية الأساسية وأصر على عدم فقدان الفلسفة صلاتها المتنوعة بالعلوم وذلك لأنها لا تقدر على الاستمرار دون النظر إلى ما يطرأ من اكتشافات جديدة وما يبرز من نظريات مستحدثة واختراعات غير معهودة في الحقل العلمي. فهل قدر الفلسفة أن تظل مجرد خادمة وفية للعلوم أم أن مهمتها النقدية التوجيهية تنصبها ملكة عليها إلى الأبد؟
الإحالات والهوامش:
[1] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, essais et conférences, traduit par Jean-Luc Evard, édition les Belles Lettres, 2011. pp.232-233.
[2] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, comment je conçois la philosophie ?. pp.231-251.
[3] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.p.237.
[4] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.p.238.
[5] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.pp.238-240.
[6] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.p.241.
[7] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.p.241.
المصدر:
Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, essais et conférences, traduit par Jean-Luc Evard, édition les Belles Lettres, 2011.
كاتب فلسفي
[1] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, essais et conférences, traduit par Jean-Luc Evard, édition les Belles Lettres, 2011. pp.232-233.
[2] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, comment je conçois la philosophie ?. pp.231-251.
[3] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.p.237.
[4] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.p.238.
[5] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.pp.238-240.
[6] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.p.241.
[7] Popper (Karl), à la recherche d’un monde meilleur, op.cit.p.241.