تسود مجتمعنا العراقي هذه الايام موجات عنف، شغب في الشوارع، حوادث قتل واغتصاب، اعتداء يومي على النساء، سرقات وسطو على المنازل في وضح النهار، تهجير سكان آمنين والاستيلاء على منازلهم بحجج مذهبية لا تمت للدين بصلة، ميليشيات عناصرها من سفلة ودونية المجتمع تجوب المناطق مدعومة من الحكومة، اخبار مفزعة عن تعذيب الاطفال والشباب وحتى الكبار وقتلهم، وممارسة الفحشاء معهم.. اشياء مرعبة تنقلها الصحف يومياً وتبثها الفضائيات المدعومة من الايادي الخفية والتي تعتاش عليها وكالات الانباء.
اني ارى في هذه الظواهر الدليل على انحلالنا الاخلاقي والديني والقيمي، علامات على الخواء الروحاني والتعلق باهداب المادية والاستغراق في ملذات الجسد.
اصحاب هذه الرؤية الدينية نراهم في المنابر الحسينية والمساجد يحملون اللافتات التي تبشر بفناءنا وفناء العراق كعقاب للاثام والبعد عن منهج الدين الحق ومعاداته والاستجابة لنداء الشياطين المعممين.
وكلما جدت حوادث جديدة كلما خرجت نداءات هذا الاتجاه تبشر بقرب النهاية وبحلول ايام الانتقام التي ستطهر الجسم الانساني من ذنوبه وسيعود بعدها طاهراً نقياً.
هذه الرؤية الخاصة للعنف والدماء في مجتمعنا لا يراها البعض الآخر علامة على انهيار او ظاهرة تحلل غريبة لان المسألة في نظرهم تخرج عن هذا النطاق الاخلاقي والديني ويرون ان المجتمع على العكس يتقدم. فالعلم يحقق انجازات رهيبة، وعقلنا في احسن حالاته، فلا توجد أية مؤشرات على نهاية او عقاب جماعي لحالات العنف والشذوذ التي تسيطر على اخبارنا.
اصحاب هذه الرؤية يرون ان الموضوع لا يخرج عن ظواهر شاذة تحدث في اي مجتمع وفي اي وقت وان المسؤول عنها هو ميوعة بعض القوانين التي تعامل الممارسات الاجرامية برحمة وشفقة، وانه من اجل اعادة الامن والقانون الى شوارعنا فان المطلوب سن قوانين متشددة تعمل على معاملة المجرمين بعنف وبشدة، وهناك حركة نشطة الآن لاخراج المزيد من التشريعات الجنائية التي تسعى لحصار الجريمة والشذوذ الاجرامي في احيائنا السكنية وشوارعها.
اصحاب التحليل السياسي يرون المسألة عكس ذلك، فلا هي دينية اخلاقية ولا هي راجعة لنقص في ترسانة القوانين التي تتعامل مع الجريمة والمجرمين.
يرون ان الموضوع برمته مرتبط بتوجه المجتمع السياسي، فانخفاض دعم الحكومة للاحياء الفقيرة القى الى ساحة الانحراف الاجتماعي باعداد هائلة، كما ان تردي المدارس الحكومية ونقص اعتماداتها ساعدا على دفع ابناء الجيل الجديد الى الشوارع يتلقون فيها دروس الاجرام ومبادئ الانحراف الاجتماعي.
واصحاب هذا التحليل يرون ان الانقسام الاجتماعي الحاد بين من يملكون وبين هؤلاء الذين لا يملكون مسؤول عن الشعور بالاحباط الذي يمنح ارضية صالحة لنمو الشعور الاجرامي، ومن رأيهم ان المجتمع المتوازن اجتماعياً تغيب فيه مظاهر الشذوذ الاجرامية وتتلاشى لان سبب الجريمة في نظرهم اجتماعي سياسي مرتبط بشكل المجتمع وبتوجهاته وسياساته…
الازمة المعيشية والبطالة والركود الاقتصادي.. كلها عوامل تغذي الجريمة في مجتمعنا، اضف الى ذلك تحليل جماعة اخرى لا تختلف مع التحليل السياسي لكنما تضيف عنصراً مميزاً، فمن رأيها ان غياب دعم الدولة عن الثقافة الرفيعة ونقص موارد الطبقات المسحوقة دفع فئات عديدة من الشباب بالذات لتلقيه ثقافاتهم من مصادر تعد حليفة للعنف والافكار المذهبية المتشنجة والمتطرفة وكافة اشكال الانحراف الاجتماعي.
لقد غاب دور المؤسسات الحكومية – مدارس وجامعات- وتقلصت الملتقيات الاجتماعية، واغلقت دور التثقيف الاجتماعي نتيجة انعدام الدعم الحكومي. هذه الاماكن كانت تحمي الشباب من ثقافة الشوارع التي يهيمن عليها الميليشيات والجماعات المذهبية الاجرامية التي تتجمع في الشوارع وتقوم بغسل ادمغة هذه الفئة العمرية وصياغتها بطريقة انحرافية غير انسانية، كما ان هذا الشاب ذاته اصبح يتلقى ثقافته من مصدرين خطرين، صحافة زبالة وشاشة ضحلة .. مذهبية انحلالية …
والملاحظ، ان الفضائيات تحولت الى ساحة للعنف والدماء والاباحية الشاذة بمختلف صورها، هذه المواد تصل الى عقل الشاب فتصيغ اساليبهم وسلوكياتهم، وهناك رأي آخر سياسي ايضاً يرى ان السياسات الحكومية بالتحديد تعتبر العنف وسيلة لحسم الصراع ، ويكفي ان ننظر لدور امريكا في بلدان امريكا اللاتينية وما فعلته فيها، وعدواناتها على العراق واحتلالها له ودعمها للارهاب الدولي المسلح، فتساند عصابة في هذا البلد وتدعم حكم في ذلك البلد وغيرهما من البلدان.
هذه الممارسات الاجرامية تبثها الفضائيات للاسف العراقية على انها بطولات، فلماذا اذن يشكو الناس من الاجرام في شوارعنا؟ لماذا يعتبرون (س) من رؤوس العصابات سفاحا بينما نفس التقييم الذي يدينه هو الذي يصفق بشدة للقتل الجماعي الذي تمارسه حكومة همجية تمارس البطش والارهاب على المستوى العراقي.