في اجتماع الملك سلمان بن عبد العزيز بالدبلوماسيين السعوديين والعاملين بوزارة الخارجية السعودية، وجَّههم الملك إلى ضرورة الاهتمام بتغيير الخطاب ونقاط التركيز، لأن الوضع الحالي «للعلاقات مع العالم» يؤثر في مصالح المملكة.
ولو تأملنا أحداث الشهور الأخيرة من عام 2016 لوجدنا أنّ الموضوع الرئيس في أوروبا وأميركا كان ولا يزال هو الإرهاب، ومن ورائه الشك العميق في المسلمين بعامة، وبخاصة العرب منهم، من شباب الأجيال الجديدة في الغرب. فالإرهابيون الذين روّعوا أوروبا وأميركا نوعان: شباب من الجيل الثالث ذهبوا من الغرب للقتال في سوريا والعراق، ثم عاد بعضهم لممارسة أعمال إرهابية في الديار التي ولدوا فيها.
والنوع الثاني ذئاب منفردة (كما يسمونهم) استهواهم عُنفُ «داعش» فقاموا أو حاولوا القيام بأعمال إرهابية في الديار التي وُلدوا فيها، دونما حاجة للذهاب إلى مواطن «داعش» وحمل توجيهات منه!
لقد صار الأمن هو الهاجس الرئيس لدى الغربيين. ولذلك فهم لا ينفرون من الشبان الملتحين والنساء المحجبات وحسب، بل من كل المسلمين.
أتى إلى بيروت في الأسبوع الماضي أحد أركان الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني. وقد تبين من محاضرته عن تجربة الحزب الديمقراطي المسيحي الناجحة في البلاد أنه من أشدّ أنصار المستشارة ميركل حماسًا. ومع ذلك فإنه أثناء شرحه للصعوبات التي يواجهُها الحزب في الانتخابات المقبلة، زلَّ لسانُه – إذا صحَّ التعبير – فقال إن المشكلة مع المليون مهاجر سوري الذين استقبلتهم ميركل ليست أعدادهم الضخمة؛ بل إنهم ينتمون إلى ثقافة مختلفة (!). وقد سألتُهُ: لكنّ عندكم منذ عقود نحو ثلاثة ملايين تركي مسلم، وما سمعنا من قبل أنكم شكوتم من اختلافهم الثقافي، والمقصود الديني؟ فقال بعد تردد: «لكنّ أحدًا منهم لم يمارس عنفًا، بينما مارسه عربٌ شبان وغير شبان بحجة دينية.
وهذه وجهة نظري بالطبع، بينما يرى شعبويو اليمين واليسار في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والنمسا والدنمارك… الخ أنّ المهاجرين العرب والمسلمين يؤثّرون على فرص العمل، وهم شديدو الإصرار على التمايُز والانعزال». وناقشه أحد الحاضرين المسيحيين قائلاً: لكنّ نسبة العنيفين عربًا وغير عرب ضئيلة جدًا، فلماذا هذا الشكُّ في الجنس أو الدين كلّه؟ ففاجأ المحاضر الجميع بالقول: هناك اقتناعٌ عميقٌ لا تعليل له في كثير من الأحيان أنّ المتدينين العرب يبررون العنف لدى أقل إحساس حقيقي أو متوهَّم بالظلم أو التهميش، وانظروا تعليلات الإسلاميين العنيفين بإرجاع شكواهم وعنفهم إلى عهود الاستعمار، وإلى استيلاء الغرب الحاضر على العالم في قيمه وممارساته: ألم تمر الصين، وتمر الهند، باستعمارات ومظالم أصلها غربي أو أنّ القائمين بها غربيون، فلماذا لم تقم تلك الأمم الضخمة بما قامت به «القاعدة»، ويقوم به «داعش»؟! هناك خصوصيةٌ إذن في ذلك للمسلمين، وللعرب من بينهم على وجه الخصوص!
إنّ المأساة أو المفارقة ذات شقين: شق يتعلق بهذا الميل الجارف من جانب العرب والمسلمين للهجرة إلى الغرب بأي ثمن، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية في بلادهم. والشق الآخر مؤداه أنّ معظم الأنظمة العربية والإسلامية طاردة لشعوبها، بل وتتمنى أن يهاجر الجميع، ولو بقيت وحدها مع أجهزتها! فبشار الأسد على سبيل المثال اعترض على الملاذ الآمن الذي تريد تركيا إقامته للنازحين واللاجئين في الشمال السوري، باعتبار أنّ في ذلك مساسًا بالسيادة (!). لكنه لم يسأل نفسَه لماذا هربت تلك الملايين، ولا عرض أن يستقبلها من جديد في المناطق التي يسيطر عليها، وعمل على تهجير الناس منها! والأطرف والأكثر مأساوية أنّ الذين يريدون التخلص من المهاجرين لأن بينهم إرهابيين محتملين، يركنون في «مكافحة الإرهاب» إلى الأسد بالذات، الذي سبق أن هجَّر هؤلاء المساكين إلى أوروبا وغيرها! ولتعُدْ إلى ما آلت إليه المسائل: الشكّ العميق في المسلمين، ومن وراء ذلك الشكّ في هذا الدين الذي يستسهل بعض أتباعه استخدام العنف العشوائي. والعنف العشوائي كانت تقوم به في ديارنا قديمًا السلطات إنما ليس باسم الدين. لكنْ هناك جماعات أو مجموعات غير دولتية مارست العنف العشوائي أيضًا، مثل القرامطة، ومن قبل أزارقة الخوارج. وقد كان العلماء يسمون العنف العشوائي هذا «استعراضًا» ويستعيذون بالله منه، ويعتبرون فاعليه مرتدين ومعتوهين، ومحاربين، تنطبق عليهم الآية المشهورة في حَدِّ الحرابة.
هناك كراهيةٌ أو توجُّسٌ من المسلمين والإسلام. ولنلاحظ أنه إذا مارس مسيحي غربي متدينٌ عنفًا، ولو عن اعتقاد، كما حصل في الدنمارك؛ فإنّ أحدًا لا يسميه إرهابيًا بل يُعتبر مجرمًا! وذلك لأنه ما عاد معتادًا القيام بالعنف باسم الدين المسيحي، وهناك إجماع لدى الهرميات الدينية على تحريم العنف لأي سبب كان. فهل تتحسن الصورة أو تتلاءم من خلال الاستمرار الفكري والديني والأمني بمكافحة العنف على أن يقوم بذلك العرب والمسلمون أنفسهم كما يفعلون الآن؟ يحتاج الأمر إلى زمن طويل؛ لأن الوضع الآن أنّ مائة عام وأكثر من التنوير وبناء الدول الحديثة، وتغيرات العيش في المجتمعات، كل ذلك كان من أجل الدخول في العصر، والمشاركة في حضارته وقيمه؛ وقد صار ذلك الآن رُكامًا في عيون العالم على الأقلّ. فلا بد من المبادرة إلى البدء من جديد بتجديد الخطاب الديني والمؤسساتي، وتجديد تجربة الدولة الوطنية التي تؤثر كثيرًا إذا عاد إليها النجاح – في تغيير نظرة العالم إلينا: الإصلاح الديني إذن، والإصلاح السياسي. بيد أن هذا وذاك يستغرقان وقتًا طويلاً نسبيًا للتأهُّل والتأهيل. وهناك أجيالٌ ضخمة وهائلة وُلدت في أوروبا وأميركا، وهي لا تمارس العنف لكنها تعاني الآن من آثاره على العرب والمسلمين.
إنه طريقٌ طويلٌ طويل؛ لكنْ لا بُدَّ منه. وتبقى نتائجه غير مضمونة بالطبع، وهذا معتادٌ ومتعارَفٌ عليه. وقد يصادفُ نجاحًا إذا أفلحنا في الوقت نفسه باستعادة التواصل في الدين والمؤسسات الدينية، وفي الثقافة والمثقفين، وفي تشجيع اتجاهات الاندماج بين الجاليات. إنها إرادوياتٌ تحتاج لكي تتجه للتحقق للتحول إلى سياسات في الدين والثقافة والسياسة والأخلاق!
نقلاً عن “الشرق الأوسط”