19 ديسمبر، 2024 10:11 ص

واحدة من الظواهر الاجتماعية والسياسية والنفسية المثيرة للاهتمام في المجتمع العراقي والتي نمت وترعرعت بعد غزو الكويت واثناء فترة الحصار الاقتصادي وهي الشعور بأن العالم الخارجي لديه نوايا سلبية وسيئة للغاية تجاه العراق. تم تغذية هذا الشعور وترسيخه في عقل الانسان العراقي من قبل النظام الدكتاتوري البائد بحيث بدى للعراقي بانه محاط بعالم كيدي معادي، وله “نوايا سلبية” تشير إلى الرغبة والدافع من هذا العالم الخارجي لإلحاق الضرر والعدوان بما ينطوي على تهديد للمجتمع ورفاهيته. من هذا الشعور تولدت عند العراقي عقلية يطلق عليها “عقلية الحصار”. ومع عقلية الحصار، يصبح الوضع أكثر تطرفا، ويحمل خطورة كبيرة حيث يعتقد أفراد المجتمع أن مجتمعهم ليس فقط في صراع مع دولة أخرى، أو محاط بجيران معادين، لكنهم يعتقدون أن بقية العالم ككل، هو معادي لهم.

هذه العقلية قد تنتهي مع تغيير النظام السياسي، كما حدث في حالة اليابان في الثلاثينات من القرن الماضي، والاتحاد السوفيتي ودول اوربا الشرقية بعد تفكك النظام الاشتراكي. في العراق استمرت هذه الحالة ولغاية اليوم فبالرغم من نهاية الحصار، وسقوط الدكتاتورية، واقامة نظام ديمقراطي برلماني منفتح على العالم الخارجي، اطلقت فيه الحريات المدنية الا إن عقلية الحصار لازالت مترسخة في عقول العراقيين، ولازالت القنوات الاجتماعية والسياسية تدعم هذه العقلية عبر وسائل اخرى كالصراع الطائفي والقومي. ولقد ساعدت هذه العقلية في اضفاء هوية او هويات جديدة تفرق مجموعة عن اخرى، وترسم الحدود بينها تم استغلالها لتحقيق اهداف القيادات السياسية من حيث اضفاء الوحدة والتفاعل والتعبئة بين افراد المجموعة نتيجة التخوف من الاخطار الخارجية، والذي بدوره ادى الى ترسيخ تقاليد وقيم ومعتقدات وتصرفات غريبة ما انزل الله بها من سلطان. بهذا الحد اكتفي في تناول ظاهرة اجتماعية نفسية دراستها ليست من اختصاصي لاحاول التركيز على ما تركته هذه الظاهرة من ظلال على حالة التعليم العالي والجامعات في العراق.

حصار الجامعة العراقية

الجامعة العراقية تعيش اليوم في حصار فرضته على نفسها من حيث انها لا ترى في التغيير والاصلاح ضرورة لديمومتها وتحقيق لرسالتها، فرسالتها تكمن في تطوير الكم فقط، والنوايا الحسنة للقيادات الجامعية لا تجد مجالا او فرصا للتطبيق، اما اعضاء هيئاتها التدريسية فالغالبية منهم لا تملك المعرفة او القدرة او الرغبة في احداث التغيير، وتصطدم رغبتهم في امتلاك المعرفة لاحداث التغيير بمعيقات كثيرة اهمها عدم وجود اموال كافية، او برنامج ملائم لتدريبهم، او رؤى واضحة لعملية التدريب وبناء القدرات، فيما عدا ايفاد الآلاف للحصول على شهادة الدكتوراه وكأنها الحل السحري الذي سينقذ الجامعات ويدخلها في القرن الواحد والعشرين.

انها العقلية السائدة بان الجامعات العراقية كانت بخير في الماضي، ويراد لها اليوم ان تعود كما كانت عليه سابقا. وبما انها كانت مليئة باساتذة من خريجي الجامعات الغربية فما علينا الا ان نعيد ملئها بمثل هؤلاء الخريجين لتستعيد الجامعة امجادها. جامعات دول الخليج مليئة باصحاب الشهادات الغربية الا انها تعاني من نفس المشاكل التي تعاني منها الجامعات العراقية ومستويات خريجيها ليس بافضل من خريجي الجامعات العراقية، ولربما اهم سبب لتردي المستويات في الخليج وفي البلدان العربية والعراق على حد سواء يعود الى الاهتمام بالكم على حساب الكيف، بالاضافة الى ما اعتبره اكاديميون سعوديون من ان “مخرجات التعليم (في السعودية) تعاني من تدني في الانضباط والتأهيل ولكون المنتج التعليمي الحالي يعاني من غياب الرؤية، وضبابية ناتجة عن التجاذبات الفكرية والمهنية للمجتمع، مع التأكيد على أن هناك افتقاراً كبيراً للعمل المؤسسي”.

ثقافة الجامعة

كنت سابقا قد تسائلت هل يمكن لاحد من تطوير الجامعة لتصل الى مصاف الدول المتقدمة من دون ثقافة جديدة تتبنى هدف صناعة الانسان وليس مجرد تعليم الطلاب طب وهندسة وآداب وفنون وتعمل على تشجيع الافكار الجديدة والتعبير الحر والتفكير النقدي والسعي لتحقيق التفوق من خلال روحية عالية من التعاون المثمر، وتشجع الطلاب على تحمل المسؤلية والمشاركة الجماعية واكتشاف قدراتهم وتطويرها، وعلى تكوين اشخاص لهم قدرات الاكتشاف والقيادة والتحدي والتخليق. هل يمكننا التأكيد ان حملة الدكتوراه الجدد سيتمكنون من تحقيق هذه الاهداف الكبرى، ام انهم مجرد سيوفرون للطلبة قدرا اكبر نسبيا من المعلومات العلمية؟ الادلة الحالية تدل على ان العائدين من حملة الدكتوراه بدأوا يتطبعون بتقاليد الجامعة ويتعودون على قيمها وتبقى ايديهم مغلولة عن لعب دور تطويري ومن دون احداث تغيرات جوهرية او وضع بصماتهم في مسيرة ابداع لمشاريع ريادية تسهم في تحقيق تطوير التعليم الجامعي.

عقلية الحصار تفرض الاعتماد على الذات والقدرات المحلية وتمنع الاستفادة من كفاءات الخارج او من العقول المتوفرة في الدول الغربية وتمنع حتى الاستفادة بما توفره الانترنت ووسائل الاتصال بالخارج باكتساب المعرفة حيث ان هذه العقلية لازالت تقف حجر عثرة امام التعليم الذاتي، والسياسات الحالية لا تأخذ بنظر الاعتبار ان كثيراً من معارف وبيداغوجيات التعليم والتعلم وتقنيات البحث العلمي يمكن اكتسابها عن بعد ولا تستحق الجلوس في الصفوف الدراسية. اننا نحتاج الى ثقافة تشجع كسب المعرفة وتنشرالحريات الاكاديمية وتربط الدراسات الاكاديمية بسوق العمل وتشجع، لا بل تفترض، المضي في متابعة التطورات العلمية وعدم التوقف بمجرد الحصول على شهادة الدكتوراه، او الترقية لدرجة الاستاذية. فالشهادة والترقية في الجامعات المتطورة ليس غاية بحد ذاتها، بل وسيلة للوصول الى القمة عن طريق الابداع والابتكار. القراءة والتتبع والاطلاع ضرورية للاستاذ الجامعي كما هي ضرورية للطالب، والاستاذ الذي يتوقف عن مراجعة احدث التطورات في علمه كمن يضرب رأسه بطلق ناري.

عقلية الثواب والعقاب

نحن نحتاج الى ثقافة لا تعتمد على المكافأت المالية والاغراءات البسيطة والساذجة لاجل دفع التدريسي لتحسين اسلوب تدريسيه او للبحث والتطوير. نحن نحتاج الى نظام اداري واكاديمي يعطي للاساتذة حق ادارة الجامعة بينما تتمتع الجامعة بالاستقلالية الادارية والاكاديمية، وفيها تنمو وتزدهر الحريات الاكاديمية، وحق التعبير وتمارس الادارة الديمقراطية، وان تكون الجامعة مركز محبة واخلاص وتفاني في العمل والبحث. نحن نحتاج الى مراكز بحث متميزة تكون حاضنات للابداع لنخرج من المحلية الى العالمية والى شراكة مجتمعية مع القطاعين العام والخاص وشراكة عالمية مع الجامعات العالمية الرائدة والى ايجاد بيئة علمية ايجابية وجاذبة للعلماء المتميزين. المكافأت يجب ان تكون لمن ينشر بحوثا متميزة في مجلات علمية متميزة وليس لكل من ينشر في مجلات او مؤتمرات مغمورة او زائفة. على سبيل المثال تمنح مكافاة لاتقل عن خمسة عشر الف دولار للبحث المنشور في مجلات العلوم او الطبيعة او الخلية بالرغم من عدم توقعنا ان يكون هذا الحدث في المستقبل القريب، وان لا تقل المكافاة عن خمسة آلاف دولار للبحث المنشور في مجلة مرموقة ومسجلة في قاعدة بيانات اي اس اي، ويدفع الف دولار عن كل عشرة اشارات في بحوث عالمية يحرزها البحث. هذا علما ان هذه المكافأت اقل مما تخصصه الجامعات السعودية كمكافأت للنشر في المجلات العالمية.

ونحن نحتاج الى التخلص من عقلية الثواب والعقاب، واللجان التحقيقية لكل شاردة وواردة، فالجامعات العراقية اليوم من اكثر جامعات دول العالم في لجانها التحقيقية والتي هي برأيي تكريس لعقلية الحصار حيث اصبحت الجامعات حساسة للغاية لأي مبادرة او عمل خارج اطار التعليمات والقوانين المركزية نتيجة انعدام الثقة والريبة التي تشعر بها القيادات تجاه فعاليات اعضاء هيئة التدريس، والتي تعتبر من وجهة نظرهم نوايا سلبية. فكما بينت في مقالة سابقة ان خوف الاداري والاكاديمي من العقاب واللجان التحقيقية هو الحاجز رقم واحد للابداع والابتكار. في المقالة ذكرت أن “الخوف من القيادة العليا، والخوف من الفشل، والخوف من السخرية، والخوف من اتخاذ القرار، والخوف من الوقوع في الخطأ،

والخوف من المخاطرة، والخوف من عدم الترقية، والخوف من التغيير، والخوف من المجهول. الخوف يشل الطاقات العقلية والإبداعية، ويمنع التدريسي من اكتشاف طرق جديدة، فهو يعرف ان افضل طريقة للحفاظ على مركزه هو اتباع الممارسات التقليدية الجاهزة”.

الخوف افضل وسيلة لبقاء وديمومة عقلية الحصار والتي بدورها ترسخ المنظومة الوظيفية التي تعتمد التسلسل الوظيفي الهرمي الذي يعتمد على اطاعة المسؤول الاعلى درجة من قبل المسؤول الاقل درجة، فالبروفسور مهما كانت منزلته العلمية لا يعتبر الا موظفا في الدولة وبدرجة اقل من مدير، ومتى تقاعد هذا البروفسور فانه سيقف في طوابير مديرية التقاعد ليستلم راتبه التقاعدي شأنه شأن اي عامل او موظف في الدولة. اقولها بصراحة انه بدون اصلاح هذا النظام الاداري الجامد القاتل لن تتمكن الجامعات العراقية من التقدم والرقي للوصول الى مستويات الجامعات الغربية.

المناصب الادارية

منذ ان فرضت الدولة هيمنتها على التعليم العالي اي في العام 1971 بدأت عقلية الحصار تفرض نفسها، فأصبحت المناصب الاكاديمية مناصب ادارية تخضع للنظام الاداري العراقي وقانون الادارة المالية التي تفتقر للقدرة على الاستجابة بشكل فعال للتطورات والتحديات العالمية في مجال التعليم العالي وادارة الجامعات، ولا تتعامل مع القيادات الجامعية على اساس المعرفة والكفاءة والمهنية والخبرة العلمية، فرئيس الجامعة والعميد ورئيس القسم ما هم الا موظفين في الدولة يستبدلون متى ما شعرت الدولة بضرورة ذلك بالرغم من وجود قواعد ادارية واكاديمية واخلاقية ثابتة، فاصبح تغيير المناصب حالة دائمة وبدأت تؤثر بصورة سلبية على سير العمل الاكاديمي وتخلق حالة من التشويش والتخبط حتى وان كانت الدوافع للتغيرموضوعية وضرورية. في الجامعات الغربية لا ترى مثل هذه الحالة فمعظم قادة الجامعات يقضون فترة تكليفهم كاملة ولا يغادرونها عادة الا بعد ان قضوا سنوات طوال وتركوا بصماتهم على مجمل العمل الاكاديمي في الجامعة او الكلية او القسم بحيث تبقى التغيرات والاصلاحات والاجراءات التي رافقت مسيرة الاداري السابق ولسنوات عديدة مدار نقاشات ودراسات واحاديث داخل وخارج الجامعة تستفيد منها الادارة الجديدة وتعتمد عليها في التطوير والتجديد.

اننا نعرف ان تغيير المناصب الادارية في الجامعات العراقية تخضع الى عوامل عديدة منها مهنية واكاديمية بحتة ومنها سياسية تفرض فرضا من قبل الكتل والقوى السياسية المهيمنة على الدولة والمجتمع، وتخضع لعملية الموازنات السياسية شأنها شأن كل المناصب العليا في الدولة. الا ان هناك اسلوب اكثر عدالة وشفافية يمكن ان يكون بديلا اذا ما توفرت الارادة السياسية لتحقيقه. برأيي ان تبدا عملية اختيار المسؤول الاداري في الجامعة بالاعلان عن الوظيفة، ويتم الاشارة في الاعلان الى الواجبات والشروط حسب لوائح الجامعة والوزارة. وخلال هذه الفترة يتم انتخاب لجنة الانتقاء وهي ممثل عن كل كلية بالنسبة لرئيس الجامعة وممثل عن كل قسم بالنسبة لعميد الكلية. يعود لهذه اللجنة المنتخبة مباشرة من قبل اعضاء الهيئة التدريسية للجامعة او الكلية المعنية مسؤولية اختيار افضل العناصر للمقابلة الشفوية وتحدد الوزارة طريقة المقابلة والاختيار على اسس مقبولة وبضمنها اعطاء درجات لكل قابلية او خبرة او قدرة للمتقدم. تتم المقابلة وبعدها تلتقي اللجنة بالوزير (في حالة اختيار رئيس الجامعة)، لمناقشة نتائج المقابلة وبعد الاتفاق مع الوزير يتم اعلان المرشح الفائز. وفي حالة اختيار العمداء فان لجنة المقابلة تجتمع مع رئيس الجامعة قبل اعلان المرشح الفائز. وكما هو واضح فان هذه العملية لا تعني تعيين رئيس الجامعة او العميد بالانتخاب وانما بالاختيار، ولكن ذلك يتم من قبل لجنة منتخبة من قبل اعضاء الهيئة التدريسية للجامعة او الكلية المعنية. وبهذا تضمن العملية صوت للاستاذ في عملية التعيين عن طريق انتخاب لجنة المقابلة والاختيار، وتضمن تعيين افضل العناصر عن طريق الاعلان والمقابلة وتوفر الشروط.

وبسبب عدم وجود مجالس امناء او هيئات استشارية للجامعات تتولى ادارة الامور المالية والشؤون الاكاديمية وتعيين رئيس الجامعة والقيادات الاكاديمية للجامعة اصبح رسم القرارات مخولا من قبل الوزارة وحدها تمنحها وتسحبها متى ما شعرت بضرورة ذلك، وتلتزم قيادات الجامعة بتنفيذها من دون توفر مرونة كافية للصرف المالي او لاحداث تغيير او تطوير اكاديمي ذاتي. ادى هذا الى ارهاق قيادات

الجامعة بالاعمال الروتينية الادارية وانعدام المبادرات البيداغوجية وتبني مشاريع تعليمية وبحثية جديدة أو تغيير النظم التقليدية في ادارة الجامعة والاطر التركيبية كدمج الاقسام والكليات المتشابهة لان مثل هذه المشاريع تحتاج الى موافقات من جهات عليا وزارية او حكومية. وتعتبر كليات التربية الحالية مثالا لعقلية الحصار حيث انها وبالرغم من كونها كليات هجينة لم يجرأ احد على الغائها واستبدالها بدراسة دبلوم تربية وتدريس يقبل فيها من رغب التخصص من خريجي الكليات الانسانية او العلمية او الهندسية ليصبح مدرسا ، بالرغم من ان هذا العمل يحمل في مضامينه احترام وتقدير كبير لمهنة التدريس التي اصبح يمارسها بالاضافة لخريجي كليات التربية خريجي كليات لا يحملون اي معرفة في التربية وعلم النفس والتدريس كالعلوم والاداب واللغات.

الدراسات العليا

عقلية الحصار تفرض ايضا ضرورة تدريب الكفاءات العالية محليا برغم انعدام المستلزمات الضرورية لتحقيق هذا الغرض حيث يلعب العامل الوطني دورا هاما في اعطاءها قوة وقدرة على الاستمرار. الدراسات العليا مثالا صارخا على ضعف التدريب من مختلف نواحيه البشرية والبيداغوجية والاكاديمية والسلوكية والمهنية فهي تعاني من ضعف في تكوين المشرفين الاكاديمي والمعرفي وقابلياتهم البحثية وفهمهم لطرائق البحث العلمي، بالاضافة الى ضعف الهياكل البحثية من مختبرات واجهزة ومواد وبيئة ملائمة للتدريب. ولكي لا ابتعد عن الواقع، اطرح هنا بعض المشاكل كما وصفها لي عدد من التدريسيين في الجامعات العراقية، وتتمثل هذه المشاكل في الآتي:

عدم وجود معايير قبول واضحة او عدم الالتزام بها، وعدم المام المشرف الكامل بموضوع البحث والخطة الدراسية للطالب، وعدم توفر الامكانيات المختبرية والتقنيات الحديثة ومستلزمات البحث، وكثرة الرسائل العلمية التي يشرف عليها بعض التدريسين برغم ضعفهم العلمي والمعرفي، وضعف مستويات عدد من طلبة الدراسات العليا بسبب قبولهم او انتقائهم بطرق غير اصولية وغير اكاديمية، وعدم وجود بيئة للتفاعل الاكاديمي والاجتماعي داخل الجامعة بين الطلاب بعضهم البعض وبين الطلاب واساتذتهم، واستمرار الاجترار العلمي لبعض المواضيع التي اكل الدهرعليها وشرب، وتشتت البحث العلمي وسطحيته وعدم ارتباطه ببؤر ارتكاز رئيسية مما يجعل تأثيره العام على الصعيد العالمي محدودا جدا، واستمرار السرقات العلمية والنقل من دون الاشارة للمصادر، وافتقار المكتبات الى كتب المراجع ومصادر المعلومات، وافتقار الطلبة للمهارات المكتبية ومهارات الاتصال والتواصل ونظم المعلوماتية، وعدم فتح الجامعة الا لساعات قليلة حيث تغلق في منتصف النهار، وعدم وجود مكاتب خاصة لطلبة الدراسات العليا، وضعف الطالب باللغات الاجنبية خصوصا الانكليزية، ووجود العفوية في التخطيط وفرض اعداد كبيرة من الطلاب بدون معاينة للبنية الاساسية للقسم والكلية، كما يتم قبول عدد من الطلاب ذوي المعدلات المتدنية من خلال قنوات مبتدعة كمن على النفقة الخاصة والمتضررين من النظام المقبور او من الذين لديهم خدمة تزيد عن خمسة سنوات في الجامعة، او من ذوي الشهداء، او من الرياضيين الابطال، او اعادة الطلبة المرقنة قيودهم من الراسبين، وضعف العلاقة والتنسيق بين الاقسام والكليات والتخصصات المختلفة داخل الجامعة الواحدة، وشبه الانفصام بين الدراسات العليا وحاجات السوق والمجتمع، وكثرة مقاعد الدراسات العليا فتح وسيلة لغير الاكفاء للحصول على عمل كتدريسي في الجامعة، واخر المشاكل تكمن في انشاء الدراسات العليا مع نشأة الجامعة مباشرة باعتبارها نقطة قوة للجامعة ومن دون الاخذ بالاعتبار الظروف الموضوعية وتوفر الخبرة والمعرفة.

هذه المشاكل تطرح بقوة موضوع اعادة النظر في الدراسات العليا والى ضرورة مراجعة اهداف وفلسفة برامجها وكذلك اعادة النظر بالعمل البحثي برمته لانهما مرتبطان ببعضهما موضوعيا وعمليا. ادعو لهذه المراجعة لان الغرض الحالي من الالتحاق ببرامج الدراسات العليا هو للحصول على موقع وظيفي اعلى وليس الى التحول للبحث العلمي كمهنة دائمة. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هناك حاجة الى حملة الشهادات العليا المحلية؟ وما هي المهارات والمعارف الاضافية التي سيحصل عليها المتخرج والتي سيستفيد منها سوق العمل والمجتمع؟ كما يبدو لي ان اهداف الدراسات العليا غير واضحة فهي تختزل الى مجرد اجراء بحث قد لاتكون له قيمة او فائدة تذكر والى اجراءات تقليدية كامتحان تمارس فيه طقوس “اكاديمية” كتقليد للجامعات الغربية. علينا بالخروج من هذا القوقم الذي يفرض على الطالب حضور بعض المحاضرات واجراء بحث بشكل فردي الى مجال اوسع لاختصاصات لاتبنى على اساس رغبة الكلية او الجامعة لمجرد توفر الكادر التدريسي فيها او لانها نقطة قوة، وانما لكون ان المجتمع يحتاجها حقا، ولا تمنح الا في بعض الجامعات الرصينة، والتي تمتلك قدرات بشرية ومادية كافية وذات قاعدة بحثية، لكي يقضي الطالب سنوات من العمل المشترك يتقصى فيها المعرفة، ويتعلم البحث الرصين، ومنهجية البحث العلمي والياته واخلاقياته، ويتم له المشاركة في الندوات والمؤتمرات، وتتوفر له الفرصة لاكتساب المهارات من حل المشكلات والعمل الجماعي والتعاوني والتعلم الذاتي والاشراف والقيادة والاتصال والتواصل وكتابة التقارير والمشاريع والبحوث، واكتساب معرفة واسعة من تكنولوجيا المعلومات، وغيرها من المهارات التي يستفيد منها سوق العمل والمجتمع.

المناهج والمقررات الدراسية

لقد اعتادت الجامعات على تدريس مناهج ومقررات قديمة لم يتم تحيدثها على مدار السنوات الماضية الا ما ندر، كما ان هناك شحة في تأليف الكتب الجامعية والاعتماد على ما يسمى بالملازم. ولكن هل يكفي تجديد المناهج والمقررات الدراسية لتكون العملية التعليمية مثمرة وجيدة؟ باعتقادي ان تجديد المناهج والمقررات لن تعطي ثمارها اذا لم يتم تجديد وتطوير التدريسي بحيث يستطيع استخدام التقنية الحديثة واتباع الاساليب البيداغوجية الجديدة المبنية على اساس فلسفة التعلم والتي تبنى على اساس تقييم مخرجات التعلم بما معنى “ماذا تعلم الطلاب؟” في مقابل “ماذا درّس الطلاب؟”.

المقررات الدراسية الحالية تبنى على اساس المنهج المعلن وهو يستند على الافتراض او الادعاء بما قام الاستاذ بتعليمه للطلاب في مقابل المنهج المدرّس فعلا وهو ما تم تدريسه او تقديمه للطلاب بالفعل. وعلى الجانب الاخر تفترض الفلسفة الجديدة ان مخرجات التعلم تعكس المنهج الذي تعلمه الطالب بمعنى ماذا تعلم الطالب بالواقع. لذا وجب ان تكتب مخرجات التعلم لكل مقرر قبل البدء بكتابة مفردات المقرر وهذا لم يحدث ابدا ولغاية اليوم حسب علمي في تحديث مفردات المقررات التدريسية في الجامعات العراقية. لذا وكما يبدو لي ان التغيير، حتى لو كان بسيطا وجزئيا بسبب عدم سماح التعليمات الحالية بتغيرات جوهرية، يعتمد على تغيرات بسيطة تستند على ما توفره الانترنت من مفردات لمناهج ومقررات لبرامج دراسية للجامعات الغربية او بالاعتماد على كتب دراسية مقررة، من دون الاخذ بنظر الاعتبار مخرجات التعلم لهذه المناهج والمقررات والتي بدونها لا يمكن التأكد مما تم تدريسه بالفعل او بما تعلمه الطالب بالفعل في نهاية الفصل او العام الدراسي وبما اكتسبه من مهارات وقدرات بعد انتهاء المقرر. وتكمن اهمية مخرجات التعلم في كونها تقدم اجابات شافية عن ماذا نريد من الطالب أن يكون قادراً على القيام به؟ وماذا يحتاج الطالب من معرفة لكي يتمكن من القيام بأمر ما؟ وما هي النشاطات التي تسهل تعلم الطالب؟ وما هي دلائل تعلم الطالب؟ وكيف نعرف ان الطالب قد اتبع احسن الوسائل للتوصل الى معارفه؟ من هذا نستنتج ان عملية تجديد المناهج والمقررات الدراسية لن تكون عملية تعليمية مثمرة وجيدة بدون تغيير جوهري في الفلسفة والاسلوب، وسيتطلب هذا تدريبا جديا للتدريسين الجامعيين وهجرا قطعيا لعقلية الحصار.

لا فضلَ إلاّ لأهل العلم، إنّهمُ على الهدى لمَنِ آستهدى أدلاّءُ

وقيمةُ المرءِ ما قد كان يُحسنُهُ والجاهلون لأهل العِلمِ أعداءُ

أحدث المقالات

أحدث المقالات