اعتبر التهجير من ابرز ظواهر عقد الكوارث (2003- 2012) نظراً الى ارتباطه الوثيق بالطروحات الطائفية السياسية للقوى الحزبية والميليشاوية واهدافها البعيدة. فلم يكن وليد المستجدات الامنية فحسب بل خدم ايضا استراتيجيات مستقبلية هدفها الفرز الطائفي وصولاً الى التقسيم واقامة المناطقية الطائفية… فعلى مدى سنوات عقد الكوارث تظافرت اسباب عدة متداخلة كانت وراء التهجير القسري داخل العراق والهجرة القسرية الى خارجه، فمحاولات الميليشيات المتنافسة تحقيق صفاء طائفي او مذهبي في مناطق سيطرتها او الانتقام من اعمال عنف لحقت باتباع ديانتها ومذهبها او السيطرة على بلدات او مواقع استراتيجية مهمة او ضرب مرتكزات سياسية وأسس اقتصادية لمناطق الخصم، كانت كلها وراء تهجير السكان من الفريق الآخر… وهناك من الناس من فضل الترحال الطويل عبر البحار على الخضوع للتهجير الداخلي وخصوصاً بعد تدهور الاوضاع الاقتصادية في العراق منذ احتلاله في 9/ نيسان/ 2003.
وفي الحالتين كلتيهما، التهجير داخل البلاد والهجرة الى خارجها، عانى الناس من مختلف الطوائف والمناطق من مساوئهما، فاقتلاع الانسان من ارضه وزرعه قسراً في غير بيئته لم يكن سهلاً من ناحية الاندماج في المجتمع الجديد سواء في العراق او في المهجر، وكذلك التعايش مع ثقافات جديدة او الانخراط في سوق العمل. وقد تتشابه ظروف من تهجر مع من مهاجر، فكل منهما حمل معه رأسماله وثقافة محليه وبلدته ومدينته وتناقضات مجتمعه العراقي الى بيئته الجديدة في العراق او في المهجر.
واذا كان العراق قد انقسم عملياً بفعل التهجير الى مناطقيات طائفية فقد تحول المهجر بشكل عام الى هذا النوع من المناطقيات او الغيتوات عندما كان العراقيون لاسباب طائفية وحزبية يعيشون منعزلين عن بعضهم بعضاً.
لقد خدم التهجير استراتيجيات القوى الحزبية والميليشياوية الساعية الى اقامة المناطقيات الطائفية وصولاً الى تقسيم العراق، وحصل ايضا ضمن الفريق الواحد لاسباب سياسية وحزبية . وبشكل عام، اسفر التهجير عن تقاسم المعاناة بين الذين كانوا عرضة له سواء من السنة او الشيعة او الاكراد او المسيحيين… لكن اهم ما اسفر عنه هو ضرب التعايش بين العراقيين. فعندما كانت بغداد واحدة موحدة لكل ابنائها اضحت عدة بغدادات بتقاسمها السنة والشيعة والاكراد والمسيح والتركمان… وتفصل بين احيائهم الكتل الكونكريتية… وهذا ينطبق على اكثر من منطقة في عموم العراق.
كما ادى التهجير الى اضعاف الروابط العائلية بسبب توزعهم في مناطق سكنهم الجديدة لكنهم سرعان ما استطاعوا اعادة اللحمة في ما بينهم والسكن في تجمعات اعادت اواصر العائلة الممتدة من جديد فضلاً عن النزعة الطائفية والمذهبية والمناطقية.
لقد تسبب التهجير بمعاناة لمن وقع ضحية له من ناحية الاقتلاع من الارض وبالتالي الانتقال الى اوضاع سكن ومعيشة وعلاقات اجتماعية وخدمات مزرية، الا انه ادى كذلك الى حدوث تحولات في طبيعة النسيج الاجتماعي وخصوصا في بغداد تمثلت بتغيير الخارطة السكانية، صحيح ان سكان مناطق بغداد المختلفين مذهبيا رحبوا بداية بالمهجرين من ابناء طائفتهم ومذهبهم الا ان هذا التهجير غيّر من وجه بغداد كعاصمة كبرى، ففي مناطق الرصافة ولا سيما في شارع فلسطين وزيونة والمستنصرية والصليخ والبلديات… ذات الاكثرية السنية.. ادى استقرار بعض العوائل الشيعية فيها والتجاوزات التي قاموا بها الى امتعاض السكان الاصليين من السنة وحدوث تنافر بينهم وبين الشيعة الطارئين.
ففي بعض احياء شارع فلسطين الراقية (زيونة ،الادريسي، النيل ، والمستنصرية )) حمل المهجرون الشيعة معهم الى بيئتهم الجديدة كل ثقافة التخلف والانحطاط القيَّمي والحضاري وعاداته الاجتماعية، ولم يكتفوا بذلك فقد نمت الاصولية الشيعية عبر دعم حكومي علني، فاقيمت الحسينيات واحتفالات عاشوراء بشكل لم يحصل من قبل. ومما زاد من التنافر بين الطائفتين في هذه المناطق هو انخراط اولا الشيعة في الميليشيات ولا سيما ميليشيات وزارتي الداخلية والدفاع، وممارستهم اليومية غير القانونية التي اقلقت السنّة الموجودين في هذه الاحياء الذين يتميزون بسلوك اخلاقي وحضاري راقٍ.
كانت تداعيات التهجير التي ذكرناها مسؤولية مباشرة عن الهجرة، خصوصاً بعد دخول البلاد تدريجياً في ازمات اقتصادية.. من هنا تداخلت العوامل الامنية والسياسية مع العوامل الاقتصادية لتجعل من الهجرة مشروعا جماعيا للاسرة العراقية. وقد شكلت كل من الاردن وسوريا واليمن ومصر منطقة جذب بالنسبة الى العرب المسلمين لسبب ديني ثقافي جعلهم لا يشعرون بالغربة في بيئتهم العربية الاسلامية الجديدة. كما كان الخليج، المنطقة التي جذبت اليها من اراد العمل وجمع ما يمكنه من الثروة ثم العودة الى البلاد عند استقرار الاوضاع.
لقد كانت هناك محطات هجرة مؤقتة واخرى دائمة، فشكلت سوريا ومصر والاردن ملاذاً مؤقتاً للفارين من جحيم العراق. فالقرب الجغرافي لهذه الدول منه جعل العراقي على مقربة من احداث بلاده وتطوراتها، حتى ان الانتقال بين هذه البلدان والعراق كان يتم بسهولة في الفترات التي يتوقف فيها الاقتتال الطائفي.
وفي المقابل، شكلت السويد وهولندا والدنمارك منطقة هجرة للكثيرين وخصوصاً من الشيعة ولفترات اطول من بقية البلدان التي ذكرناها.
ان الهجرة الى البلدان الخليجية حدثت في العادة من اجل جمع الثروة وما ان يتحقق ذلك حتى يعود المهاجر الى وطنه او يسبقه رأسماله الى هناك من خلال الدخول في مشاريع مضاربة عقارية.ومن ناحيتها شكلت لندن وفرنسا والولايات المتحدة واستراليا، محطة للاستقرار الابدي.
ادى تدفق العراقيين في الولايات المتحدة وكندا ولندن الى قيام احياء فيهما غلب عليها الطابع العراقي العربي. وقد اختلفت حياة المحدَّرين من اصل عراقي عن اولئك المهاجرين الجدد من الدفعات التي افرزتها الاوضاع العراقية، فتمكن الاولون من الاندماج الى حد معين في المجتمع بينما رفض بعض من الآخرين هذه العملية وقدموا نماذج ادوار اجتماعية متعددة، فنجد من بينهم المنقطع عن الدراسة والعاطل عن العمل، والمجرم، والتاجر الناجح ورجل الاعمال، اضافة الى الفنان والاكاديمي. لقد تمكن المسيحي العراقي بشكل عام من الاندماج في بيئته الجديدة اجتماعياً واقتصادياً لاسباب تتعلق بالدين والثقافة والمؤهلات العلمية والقدرات الاقتصادية. في المقابل، رفض المسلم عملية الاندماج هذه لسبب ديني ثقافي عبَّر عنه في ابتعاده عن الثقافة المجتمعية الغربية وعن لغة البلد المضيف، كذلك في لباس المرأة المسلمة في المدرسة وعلى الطرقات العامة وفي حضور الدروس الدينية في المساجد وتعلم العربية ووضع صور الشخصيات والقيادات الدينية في المنازل. وجرى تبرير ذلك بان التمسك بالاسلام يساعد على مقاومة الضغوط التي تفرضها الثقافة الغربية والمحيط الاجتماعي الغربي على الاسرة الاسلامية. وفي كثير من الاحيان كان اظهار التدين لتأكيد الانتماء الى هوية الاسلام، أي رفض قيم الغرب وثقافته وبالتالي ضمان بقاء المسلم مختلف عن الاخر ففصل عن مجتمعه الغربي ومتكامل مع نفسه. وبسبب هذا الموقف الاسلامي من الغرب من ناحية والنظرة السلبية العامة للمجتمعات الغربية تجاه الاجنبي او الغريب من ناحية اخرى، لم يكن من السهل اندماج المسلم العراقي في مجتمعه الجديد.
بناءاً على ما سبق، عزل المسلم العراقي نفسه في احياء وفي تجمعات طائفية او مذهبية كانت في كثير من الاحيان استحضاراً لمجتمع المحلة العراقية بتقاليده وعاداته حتى باسرته الممتدة، ولم تربطه بمجتمعه الجديد سوى الاعانة المالية التي كان يحصل عليها من سلطات بلدان المهجر. فلا مشاركة اجتماعية ولا انخراط في الحياة السياسية ولا ألمام بلغة البلد الذي يعيش فيه. وهذا ما حدا باحدهم الى تشبيه احياء في بريطانيا وامريكا بمنطقة الفضل وقنبر علي والمربعة العراقية لكثرة لافتات المحال باللغة العربية والتجمعات حولها والعاب الدومينو والطاولة (النرد) والاصوات العالية والعبارات العربية المتبادلة والاعراس والحفلات الفلكلورية.
لقد طرحت مسألة اندماج المسلم في مجتمعه الجديد معها اشكالية دقيقة، وهي سماح الشاب العراقي بشكل عام لنفسه بالتكيف مع حياة المجتمع الغربي (الخروج مع الفتاة الاجنبية) ومنع ذلك عن الفتاة المسلمة ما كان يؤدي في معظم الاحيان الى حدوث صدام داخل الاسرة بين الاهل الذين يريدون ان يبقى اولادهم في عباءة ثقافة المحلة العراقية وتقاليدها وبين الابناء والبنات الذين يتعرضون في كل يوم الى تأثير الخارج عليهم. من هنا عمل الاهل على تزويج بناتهم من عراقيين في المهجر او استحضار زوج تحت الطلب من المحلة في العراق عبر اغرائه بالجنسية الاجنبية، وهناك أسر اسلامية استحضرت زوجات لابنائها من العراق خشية الاقدام على الزواج من اجنبيات.
لقد انعكست سلباً عزلة فئة كبيرة من العراقيين عن مجتمعاتها الجديدة في المهجر واحتفاظها بخصائصها التي اتت بها وعدم المام الكثير من افرادها بلغة البلد المضيف فضلاً عن تصرفات البعض في ما يتعلق باوضاع العمل والعطالة والاعانات الاجتماعية، فجعل هذا الامر دولاً مثل بريطانيا والمانيا وفرنسا والسويد… تسن قوانين تعدّل بموجبها في سياستها تجاه هجرة العراقي متجاوزة الاسباب الانسانية التي دفعتها الى استقباله في الاصل. وهذا ما دفع بعض العراقيين للجوء الى العنف والاخلال بالقانون ووفق مفوضية شرطة السويد وهولندا للاجراءات الوقائية، فان اكثر اعمال العنف والاجرام ارتكبها لاجئون من اصل عراقي.
وعلى الرغم من هذه النواحي السلبية كان العراقي على العموم حضوره في بلدان المهجر في الخليج العربي واوربا وبعض الاقطار العربية، متمكّن من اثبات نفسه في مجالات العلم والمهن والاقتصاد وخصوصاً في الولايات المتحدة والسويد والاردن وتشكيل قوة اقتصادية سياسية اعلامية حازت على الاحترام والتقدير، لكن فرار المثقف وصاحب الاختصاص والمتمول العراقي الحامل معه مخزونه الثقافي والعلمي ورأس ماله الى الخارج ترك العراقي لامراء الميليشيات والعصابات ينبهونه كما يشاؤون وينزعون عنه لمسة الحضارة الغربية التي جعلت منه عراق الخراب والقتل و…….
[email protected]