الأساطير عند العرب كثيرة، ومختلفة، حالهم حال أقرانهم من الشعوب الأخرى، والمجتمعات الحية، ان كانت هذه الشعوب، والمجتمعات، بدائية أو متحضرة، وقد تركوا لنا سِفر طويل، وواسع يتضمن هذه الأساطير، ابتداء من بداية نشوء الكون حتى قيام الساعة لمن يؤمن بهذا القيام.
والكثير من الكتاب العرب هذا اليوم، وبشتى مناحي الكتابة، وعلى كافة المستويات، في لا وعيهم، عقدة الخواجة، ونعني بها انهم يرون في كل شيء هو من اختراع أو اكتشاف الغرب، وليس للعرب دور فيه، ويهللون له ويطبلون، وإذا جاء أحد العرب وصرّح بأن هذا الأمر قد اكتشفه العرب، أو وجد عندهم، سابقا قام صراخهم، ورددوا قائلين: بأن هذا أمر غربي مئة بالمئة. ونحن هنا سنذكر بعض الانجازات التي قدمها العرب على مستوى الأساطير من مثل:
– عقد “جودر” التي اكتشفتها في حكايات الليالي، ودرست من خلالها روايات، وقصص، حديثة صيغت اعتمادا عليها دون أن يعلم الكاتب، دراسة نفسية اجتماعية، وأصدرت كتابا عنوانه (عقدة “جودر” والتحرر من سلطة الأم – دراسة تحليلية في تأثير أسطورة الصياد “جودر” في الأدب).
– ومن بين هذه الأساطير العربية اسطورة الانتقال، والتحول، عند العرب، أي الانتقال من المجتمع الأمومي الى المجتمع الذكوري.
واذا كنا نريد أن نفحص السرديات العربية، ومنها الأساطير، بالرغم من تثاقف سرديات العالم كافة فيما بينها، فان الدكتور فاضل الربيعي يناقش في كتابه “شقيقات قريش” واحدة من الأساطير العربية التي تعبر عن انتقال المجتمع الأمومي الى المجتمع الأبوي، وهي اسطورة “عمليق وجديس” على الصفحة/304 وما بعدها.
حيث يذكر الطبري: (( وكان عليهم ملك من طسم غشوم لا ينهاه شيء عن هواه يقال له عملوق. وكان مما لقوا من ظلمه واستذلاله انه أمر أن تهدى بكر من جديس الى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها – أي يفض بكارتها)). وهذا ما ورد في ملحمة/اسطورة جلجامش ص39 من الاسطورة التي ترجمها طه باقر، حيث من صفات جلجامش انه:
* “لم يترك جلجامش عذراء لحبيبها”.
يقول الدكتور فاضل الربيعي في “شقيقات قريش”، ان الأسطورة ((تروي بشروط إنشائها الخاصة، ولغتها الرمزية الجامحة، بواعث وظروف النزاع المحتدم بين النظامين المتنافرين والمتنافسين، النظام الأمومي والنظام الأبوي. والأرجح، ان العرب بروايتها لهذا الصراع، تكون قد عبرت من خلال إعادت تمثل فكرة اندحار النظام الأمومي وانزياحه عن مجتمع العرب العاربة (الأولى)، في وقت ما من الأوقات، عن تصورها لنمط الأنتصار التاريخي الذي حققه، في النهاية، النظام الأبوي، وثبت بفضله شكل السلطة في مجتمع القبيلة القديم.))(1).
وفي هذه الأسطورة نلتقي بالجنس أيضا، وذلك ان “عمليق” مثل جلجامش، “يفترع” العروس قبل زوجها.
من خلال هذه الاسطورة نجد الدور الكبير للجنس في انتقال الحضارات من طور الى آخر، وقد كتبت عن ذلك دراسة بعنوان (“أساطير الانتقال” انتقال الحضارات من طور الى طور آخر) ونشر في موقع الكتابة الثقافي يوم 19/5/ 2021، وكذلك نشر في كتابي (رؤى الأسلاف – قراءة في الأساطير – دار الورشة – بغداد – 2021)
***
إذن فالأسطورة هي تمجيد لذكورية المجتمع، وإعادة المرأة إلى البيت لتبقى تحت سيطرة الرجل //الزوج.
إلا اننا نجد اسطورة “جودر” العربية أكثر واقعية من اسطورة “أوريست” في أنها لا تقتل الأم وانما شبحها.
وتأتي اسطورة عربية أخرى تتحدث عن موضوع تحول المجتمع من مجتمع انثوي الى مجتمع ذكوري هي اسطورة اسماعيل وهاجر التي درسها دراسة من منظور انثروبولوجي المفكر العراقي الدكتور فاضل الربيعي في كتابه (اسماعيل وهاجر – القبيلة المنبوذة – اسرائيل المتخيلة/ مساهمة في تصحيح التاريخ الرسمي لمملكة اسرائيل القديمة – المجلد الثاني – الكتاب الثالث – ص9).
***
في هذه الدراسة سنقدم اسطورة عربية سبقت اسطورة الاغريق في قضية التحول من المجتمع الأمومي الى المجتمع الأبوي.
يقول الدكتور الربيعي: ((بوسعنا من المنظور الأنثروبولوجي، أن نرى إلى أسطورة «إسماعيل وهاجر» التوراتية، بوصفها قصة دينية تروي تصورات القبائل القديمة في الشرق العربي عن اللحظة التاريخية التي جرت فيها عملية إزاحة منظمة للنظام الأمومي، وتمهيد السبيل أمام بزوغ العصر الأبوي. يتجلی جوهر هذه القصة من خلال فكرة أن إبراهيم تخلص فجأة ودون سبب منطقي من زوجته هاجر، وقام بطردها مع ابنها البكر . منذ هذه اللحظة سوف تختفي صورة الإلهة الأم والابن البكر في القصة التوراتية، لتحل محلها صورة الإله الأب والابن، المهيمنان على العائلة، أي صورة إبراهيم وإسحاق، محل صورة هاجر وإسماعيل. بهذا المعنى، ستبدو لنا القصة التوراتية، وكأنها تلخص اللحظة التاريخية التي انهار فيها العصر الأمومي، حين حل محله العصر الأبوي، لكن، و من هذا المنظور أيضا، ستبدو لنا وكأنها تروي ما هو أبعد من هذا المضمون. إن قصة الطرد قد تمثل من المنظور الأنثروبولوجي، تصورا قديما عن التوترات التي نشبت داخل فضاء المعتقدات الدينية الأولى في مجتمع «النقيل البدائي»، وبالطبع شملت هذه التوترات سائر الجماعات المرتحلة والمهاجرة التي استقرت أخيرا، وتمكنت من امتلاك أرضها الخاصة بها. ومن المحتمل أن التوترات الأولى داخل فضاء المعتقدات القديمة كانت تتسم بطابع شمولي، وأنها كانت نتاج «الاستقرار»، و بالفعل فكل استقرار يمكن أن ينتج نمطا متشابكة من التوترات بين القرابات الدموية (الأسرية)، وقد يكون بعضها بسبب المعتقدات الدينية، ذلك أن «أرض الاستقرار – رمزية الميعاد» ؛ كانت تتأسس حول فكرة مركزية وحيدة يتجاذبها طرفان متصارعان: الإلهة الأم والابن، ضد الإله الأب والابن. وبعبارة لائقة أكثر تعبيرا عن مضمون هذه الفكرة، موازية وأكثر تلخيصا ؛ فإن التوراة تروي فكرة هزيمة العصر الأمومي «طرده» وحلول العصر الأبوي البطريركي، وكل ذلك من خلال قصة رمزية لا ينبغي المبالغة في قيمة مضمونها. وبهذا المعنى كذلك، يكون عصر الإلهة الأم الابن قد أصبح فعليا أمام لحظة الزوال النهائي مع الطرد الرمزي؛ وبالتالي بزوغ عصر الإله الأب الابن وتدشين العصر الأبوي «الإبراهيمي» الذي سوف يهيمن على التاريخ البشري حتى اليوم. ولذا؛ ستبدو الأسطورة شديدة الارتباط بأكثر مما نتصور، بسرديات أخرى موازية ومتناظرة سوف تتواصل))(2).
إذا كان الدكتور الفاضل الربيعي يذكر ان هذه السردية هي سردية توراتية فكيف نقول انها عربية؟
لما كان المفكر الدكتور فاضل الربيعي قد كتب كتبا كثيرة في ان جغرافية التوراة ليست هي جغرافية فلسطين، وانما هي جغرافية اليمن، وبرهن على ذلك من خلال أسماء المناطق، واللقى الآثارية، ومن السرديات التي دونت بقلم المسند على الصخور في اليمن، وهذه الدلائل والبراهين تجعل نظريته مقنعة للقاريء الحصيف. إذن والحالة هذه، وكما جاء في كتاب (اسماعيل وهاجر) فإن هذه السردية التوراتية هي سردية عربية قديمة ذلك ان السبئيين هم الاسرائيليون في مملكة سبأ اليمانية، أي انهم قبائل عربية، يمانية، قديمة. واليهود (أي أبناء هود) هم في الجنوب أي في مملكة حمير، وهم قبائل عربية، يمانية قديمة. أما الدين اليهودي، دين الحميرين، فهو دين عربي، يماني قديم، وكما برهن على ذلك الدكتور الربيعي في كل كتبه.
***
الهوامش:
() شقيقات قريش – فاضل الربيعي – منشورات رياض الريس – 2002 – ص304.
(2) اسماعيل وهاجر– فاضل الربيعي– منشورات رياض الريس – 2022 -ص9.