في عقد الخمسينات من القرن الماضي ارتفعت ايرادات البلد بشكل كبير جدا بما يمكن تسميته بالطفرة المالية, وحصل كل هذا بسبب عائدات النفط المرتفعة, مما جعل الحياة الاقتصادية تزدهر, وهذا ما مكن حكومات الخمسينات للاتجاه لإقامة عديد المشاريع الانشائية ومعمارية, وكانت مطالب واسعة لتحسين الاحوال المعيشية للعمال والفلاحين, بعد عقود من الظلم, وشهدت بغداد تظاهرات كبيرة وعنيفة يقودها الشيوعيين, حيث كان الشيوعية هي التيار السائد وهو الكيان السياسي الاكثر تنظيماً في تلك الايام, وتبرز فيه ظاهرة الولاء الشديد لمبادئه.
وبسبب مصر وانقلابهم على النظام الملكي في مصر عام 1952 امتدت ايدي المخابرات لتنشر العبث في بغداد, كأن هنالك قرار من القوى العالمية (امريكا وبريطانيا) مع تأييد صهيوني, لافتعال الفوضى عبر قلب الانظمة في الشرق الاوسط من ملكيات الى جمهوريات, باستثناء دويلات الخليج التي يجب ان تبقى مستقرة بعيدة عن اي زلزال.
فتم الدفع بالضباط العراقيين لأسقاط النظام الملكي, مع تشجيع ودعم خاص لفئة القوميين, وهنا بدأ الدور الاول للبعثيين بالظهور.
في تلك الفترة توسع نفوذ حزب البعث, بخلاف باقي الاحزاب الموجودة والتي هي اكبر منه عمراً, مما يدلل على وجود قوى خفية تدعمه وتحركه, فبعد ان تأسس عام 1947 على يد مسيحي (الماسوني عفلق) والمتطرف (صلاح الدين البيطار), وكان هنالك اهتمام خاص بالاسم كي يؤثر بالسذج, فكان البعث ومعناه اعادة الحياة, وانه حزب لكل العرب وليس خاص بالسوريين فقط, حيث قاعدة تعمل عليها القوى العالمية, بتجديد اللاعبين السياسيين, كي لا تخلق جو للاستقرار السياسي, فكان هناك شبه يقين ان رجال السياسة في العراق انتهى زمانهم وحان وقت التغيير عام 1958.
فكانت الجهود تعمل على تهيئة الاجواء لحزب البعث ليعبث بالعراق, عبر دعم وتخطيط كبير, والطبخ على نار هادئة.
وقد استفاد العفالقة كثيرا من الموقف السياسي المخيب للاتحاد السوفيتي, بعد اعتراف موسكو بالكيان الصهيوني, حيث كانت ضربة موجعة للشيوعيين, وفرصة كبيرة لتمدد العفالقة جماهيريا, فبعد ان كان عدد العفالقة في العراق عام 1955 لا يتجاوز ال300 بعثي, وذو تأثير محدود جدا في الجيش, تحول بعد عام 1955 بفعل الدعم القومي المصري, والاسناد المخابراتي البريطاني – الامريكي-الصهيوني الى مافيا كبيرة داخل مؤسسات الدولة تعمل بخبث, وقد استغلوا التغيير للنفوذ والتوسع, بل وخططوا للإطاحة بالزعيم قاسم عام 1959 عندما قاموا بمحاول اغتيال للرئيس في شارع الرشيد.
اظهرت تلك الايام ان العفالقة يفكرون كالشركات التجارية, فنظام حزبهم قائم بنفس بناء الشركات, حيث يفتحوا فروعا في كل مكان بغرض التوسع الجغرافي, وتدمج الفروع احيانا بهدف تحقيق فعالية اكبر, ويهتمون بجمع المعلومات عن كل شيء كي يكون الكل في قبضتهم السرية, ويحاربون المنافسين عبر ايجاد اذرع مسلحة سرية هدفها قتل المنافسين ونشر الذعر بين الناس, وهذا حال كل كيان يقلد العفالقة بالعمل السياسي الانتهازي.
وبعد محاولة الاغتيال الفاشلة للزعيم قاسم, والمحاكمات التي جرت لقيادات العفالقة, اصبحت لهم شعبية كبيرة باعتبارهم ابطال, من صنع المخيلة الساذجة للجماهير غير الواعية, وقد تحولت محاولة الاغتيال الجبانة والفاشلة الى الخيط الاول لرسم اسطورة صدام, وليتحول فيما بعد الى اله يعبده العفالقة.
وقد عمدت الماكنة البعثية على طمس حقيقة انجازات عبدالكريم قاسم او تشويهها كي يسقط من عيون الجماهير, مع ان الزعيم قاسم قد عمل بجد على تحقيق المساواة الاجتماعية, بعد عقود من الظلم الطائفي, وبين عامي 1958-1963 تحرك العراق بعيدا عن مفهوم الوحدة العربية حيث اسس علاقة ود وصداقة مع الكتلة السوفيتية, وابتعد عن المحور الامريكي-البريطاني-الصهيوني.
ان شعار الوحدة العربية الذي رفعه القوميين والعفالقة, كان فقط لتحقيق السيطرة على الحكم, وليس لتحقيق الشعار, فالشعارات تستخدمها العفالقة ومن يشبههم فقط للضحك على الجماهير, فالأفعال نجدها دوما على خلاف الشعارات, ومن يكثر من الشعارات من دون فعل لتحقيقيها فهم فقط البعثيين وابنائهم.
لذلك كان سقوط حكم عبد الكريم قاسم حاصل لا محالة بسبب فعالية البريطانيين والامريكيين والصهاينة, بالاضافة للفوضى التي افتعلتها ذيول البعث والقوميين, مع نشاط ملحوظ لخط عبدالناصر والسعي الحثيث لأسقاط حكم الزعيم قاسم, مع ظروف حرب الاكراد وازمة الكويت, مما جعل الامور تفلت من السيطرة, وتصبح بيد العفالقة عام 1963, ان عقد الخمسينات هو الذي مهد الارضية للعفالقة للسطو على العراق.