المتأمل لأوجه حياتنا العامة يلاحظ رغبة شديدة في تبوأ المناصب الرفيعة، وينتج عن هذه الرغبة تناقض كبير بين تحقيق التنمية كهدف عام نسعى اليه جميعا وبين تحقيق الطموحات الشخصية للأفراد. نحن مؤهلون نظريا لتحقيق مستويات رفيعة من التقدم الاقتصادي والعلمي، فهناك أعداد وفيرة من المتعلمين والمتخصصين في كافة المجالات، وتفوق نسبة التعليم في بعض الدول العربية معظم النسب المماثلة في العالم الثالث، كما أنه يوجد فوائض مالية هائلة في دول الخليج العربي لا تستثمر كما يجب…
والسؤال هو لماذا نعجز اذن عن تحقيق الطموحات الكبيرة؟ يكمن السبب في اعتقادي في عشق الأثرياء العرب أولا للبذخ والاستعراض وضعف وعيهم الوطني والتنموي، ثم في عشق «النخبة والمتعلمين» المرضي للسلطة «والمشيخة» حيث يصبح المحافظة على المنصب هاجسا يفوق على كل ما عداه من أولويات ترتبط بالتطوير والمصلحة العامة، حتى أن البعض مستعد في سبيل ذلك للتضحية بالمصلحة العامة.
ويبدو أن المناصب الرفيعة في بلادنا العربية براقة وذات جاذبية واغراء ولا يمكن مقاومتها، فلا توجد للان تقاليد معتمدة نزيهة للمساءلة والمحاسبة! وقد تجد في حالات عديدة مسؤولا فاشلا ينتقل علانية من منصب لمنصب دون أن يهتم بتحسين أدائه والتخلص من فساده ومحاسيبه… فهل سبق «لمستوزر» أو مسؤول رفيع أن رفضا المنصب لأنهما ببساطة غير كفؤين ومؤهلين وغير متفرغين لهذا المنصب؟ كما أننا نربط التسلط والاستبداد بقوة الشخصية ويتم تقييم العاملين دوما بشكل هرمي (من أعلى لاسفل)، وينحصر معظم تركيزنا على المكاسب المادية والنفوذ والمركز الاجتماعي، وتسود هذه المفاهيم حتى في المؤسسات الأكاديمية والعلمية والبحثية، ونكاد نفتقر «لمجانين العلم والمعرفة» مثل «أرخميدس» الذي طالب بتأجيل اعدامه حتى يكمل بحثا علميا! أو «البيروني» ألذي رفض كل الهبات المالية وأصر على موقفه العلمي ، متناسين أن معظم انجازات التقنية التي ننعم بها الآن هي في الأصل ثمار «هوس علمي كبير”!
ثم اننا نعشق الشهادات الأكاديمية كثيرا لذاتها وليس لكونها وسيلة لتوسيع افاق العلم والمعرفة، ونعتبرها في حالات كثيرة غاية بحد ذاتها نجني من ورائها الالقاب والاحترام الاجتماعي والعلاوات المتخصصة، كما أننا نؤمن كثيرا بضربة الحظ والطرق السهلة للوصول، ونستغرب من “سذاجة ” الشرفاء والمثابرين بل ونسخر منهم أحيانا.
ما زلنا نتعامل مع العلم والمعرفة والتكنولوجيا باسلوب تجاري بحت، كما ان النمطية والروتين والجمود تحاصرنا كالكابوس وتعيق انطلاقنا، ويسود حياتنا الثقافية “حوار الطرشان” ، والنخبة المثقفة منغلقة على نفسها تعاني من العزلة والغرور والفوقية والنرجسية، ولم تستطع أو تنجح في بناء وعي جماهيري أو حتى بالتواصل الفعال فيما بينها، وهناك حائط خرساني مابين الشباب والكهول وضعف اتصال وضياع للكثير من القيم والمفاهيم وتمسك هائل بالمصالح الذاتية الأنانية، وتبدو الاجيال الجديدة وكأنها ضائعة وبلا روح تحاول عبثا البحث عن هوية…
الزمن الباقي: تحفة ايليا سليمان السينمائية كنموذج ابداعي فريد
وحتى نخرج من دائرة جلد الذات لا بد من تسليط الاضواء على نماذج عربية باهرة للتميز، التي هي مثابة ضؤ الشمس الذي يخترق نفق الظلام الطويل، وأنا على ثقة من أن هذه النماذج الحضارية تقض مهاجع الاعداء الاسرائليين تحديدا والمتعاونين معهم في أرجاء المعمورة شرقا وغربا (وخاصة الاوروبيين المنافقين!).
فالنموذج “الحضاري” الابداعي الاعلامي الذي قدمه المخرج السينمائي الفلسطيني “ايليا سليمان” ، الذي استطاع أن يلخص مأساة فلسطين والاحتلال الصهيوني الغاشم في شريط سينمائي مؤثر وممتع هو “الزمن الباقي”/2009، وقد لاقى تقدير النقاد العالميين في مهرجانات
السينما، مستخدما لغة سينمائية مبتكرة ومعبرة، وبامكانات متواضعة نسبيا وبعيدا عن “ضجيج” المؤثرات الابهارية والتقنيات المعقدة..وقد استمتعت باستخدامه المتقن والمتوازن لأربعة عناصر هي “الصمت والسخرية والتأمل والوجوم”، وقد تمكن من عرض أدق تفاصيل مأساة النكبة والهجرة الفلسطينية خلال ستة عقود، وبدون أن نشعر بالملل بل أنه استعرض بحميمية وحنين الواقع الفلسطيني وتعمق في كيانه وهمومه ومواجهته التاريخية واليومية للاحتلال القبيح، فقد أمتعنا ايليا سليمان بل وأضحكنا (بمرارة) وهو يعرض باسلوب مباشر وكاريكاتوري أحيانا مأساة فلسطين في شريط سينمائي جميل ومبهر. أما ما يجعل هذا العمل مبهرا في اعتقادي فهو القدرة الفذة على التحليل والتركيب والاستنتاج (باستخدام التكنولوجيا المتقدمة والتصوير السينمائي)، وذلك لفضح ممارسات المعتدين الصهاينة من قتل واغتصاب واغتيال لفلسطين وشعبها، ومن ثم اظهار ذلك للعالم كله وللاعلام بشكل فني رائع بهدؤ وبلا صخب!
هامش توضيحي:
الزمن الباقي
فيلم “الزمن الباقي” هو فيلم روائي طويل أُنتج عام 2009، قصة وإخراج إيليا سليمان، وبطولة علي سليمان، أفي كلينبرغر، ناني رافتيز، صالح بكري، وإيليا سليمان. يروي الفيلم السيرة الذاتية للمخرج من خلال عدة أجزاء تمتد من حياة عائلة فلسطينية من عام 1948 إلى أيامنا هذه، وحاول سليمان في فيلمه هذا المزج ما بين ذكرياته الخاصة وذكريات والديه عن الحياة اليومية التي عايشها الفلسطينيون من ذلك الزمن إلى الآن. إن كل جزء من الفيلم يتكون من مجموعة من الصور والمشاهد التي تلخّص فترة زمنية محددة في حياة المخرج، وقام بالفصل بينها باستخدام الإظلام التدريجي ثم الشاشة الخالية لبرهة قبل العودة إلى الضوء تدريجياً مرة أخرى مع مشهد آخر…