الكرسي قطعة أثاث تستخدم في الجلوس ، وقد تعددت الكراسي واختلفت أنواعها وأشكالها بتعدد وظائفها ، فهناك كراسي للانتظار وكراسي للاستراحة وأخرى صممت لأنواع مختلفة من العمل ، وثمة كراسي صنعت للتعذيب وأخرى للإعدام ، كما اختلفت تصاميم الكراسي باختلاف المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية لشاغليها ، وباختلاف أساليب الوصول اليها ، فهناك كراسي يسمح للجلوس عليها مجانا ، وأخرى لايمكن الجلوس عيها دون دفع ثمن ، او تقديم أضاحي ، وان كانت من البشر . وللكرسي تأثير لايقاوم ، لدى الكثيرين ، وبخاصة في مجتمعنا ، لانه يمثل واحدا من اهم مصادر السلطة وما يترتب عليها من امتيازات اجتماعية ومالية واشباع رغبات نفسية دفينة .
يفسر البعض عشق الكراسي والتشبث بها من منظور اجتماعي ونفسي ويصفونها بأنها أشبه بالأفيون او المرض ويرجعون بعض أسباب هوس الكراسي الى الجانب النفعي المادي التي توفره الكراسي من خلال منحها لشاغليها سلطة اتخاذ القرار ، او تنفيذه في الكثير من مفاصل الحياة العملية المرتبطة بالجوانب المادية ، فضلا عن الوجاهة الاجتماعية ، وفي هذه الحالة وبسبب جهل الكثيرين بالحقوق والواجبات يتحقق التحام بين السلطة والكرسي بحيث يشير غياب احدهما الى غياب الآخر ، الأمر الذي يدفع المتسلط الى الالتحام التام بالكرسي لانه يحقق الالتحام التام بالسلطة . وبينما يعجز البعض من الالتصاق بكرسي بعينه مدى الحياة فانه يناور عبر شبكة علاقات أخطبوطية : سياسية ، مادية ، عشائرية ، عنصرية لضمان حصوله على كرسي من نوع او لون آخر يمنحه سلطات اخرى حتى وان كانت خارج اختصاصه او اهتماماته وحتى ان تخلى عن كتلته او حزبه لينظم الى تكتل او حزب آخر مادام الامر يضمن تربعه على الكرسي مرة اخرى . من جانب اخر يدرك البعض من الذين تسلقوا على كراسي المسؤولية في غفلة من الزمن ان فترة بقاءه مهما حاول محدودة ، لذا فهو يسعى لاستغلال فترة إشغاله الكرسي لتحقيق أقصى درجة ممكنة من الاستفادة بصرف النظر عن مشروعية او قانونية مايفعل او مايكسب .
وتفيد العديد من أدبيات سيكولوجيا الكراسي ان الرغبة بالتسلط على كراسي المسؤولية ، او الالحاح بالتشبث بها لايرتبط بالامتيازات المادية والوجاهة الاجتماعية التي تتحقق من خلال شغلها فحسب ، وانما يرتبط بطبيعة البنية النفسية للراغب بكرسي المسؤولية ، فهناك علاقة متبادلة التاثير بين المسؤول والكرسي ، حيث تمثل كراسي السلطة واحدة من أهم الأساليب التي يتمكن من خلالها الفرد تحرير انفعالاته المكبوتة في ممارسة ادوار تعكس صور مختلفة من عقد النقص التي يعاني منها والتي ربما ترتبط بطفولته وتجاربه الفاشلة عبر مسيرة حياته . اذ كما هو معروف ان الانفعالات المصاحبة لتجارب الفشل والعوز ، وصورة الذات النفسية والجسمية والاجتماعية ، فضلاً عن أساليب التنشئة ، لا تتبدد بوصفها طاقة نفسية سلبية وانما تكبت في العقل الباطن بوصف الكبت آلية دفاع نفسية ، وفي العقل الباطن تتداخل الانفعالات المكبوتة وتتمحور وتتكتل على هيئة عقد نفسية ، تصبح اكثر غرابة ومشوهة المعالم لانها استقطبت في تركيبتها العديد من الغرائز الحيوانية والعدوانية التي تعد من مكونات العقل الباطن . وفي إطار التفاعل في الحياة اليومية تحاول تلك العقد الناشئة من عمليات الاتحاد والانشطار والإبدال في العقل الباطن ، الاندفاع الى مستوى الوعي فتواجه بعقبات قانون الرقيب النفسي وصراع مكونات اخرى للشخصية ، فضلاً عن وجود القوانين والأعراف الاجتماعية التي تكبح وتمنع تلك العقد من التحكم في سلوك الفرد في إطاره الاجتماعي ، الا ان غياب المحددات القانونية او الاجتماعية وتداخل بيانات افراد المجتمع بين حقوقهم وواجباتهم يسهل تحرير الانفعالات والعقد المكبوتة في أشكال وطرائق مختلفة وبحسب المواقف الاجتماعية ، على سبيل المثال : وفي صعيد التفاعل الاجتماعي قد نجد ان الكثير من الأفراد يمارسون افعال ويصرحون بأقوال خارجة عن المنطق والمألوف في حالات تجمهرهم وخضوعهم لسلطة العقل الجمعي ، أي عندما يشعر الفرد ان لاحواجز تمنع انفعالاته المكبوتة وعقده من التعبير عن نفسها وبخاصة عندما تتناغم مع اجواء سلوك القطيع . وفي مثال اخر : قد يسعى البعض الى اجراء تغييرات بتركيبة أسرته فيعيد تجربة الزواج وربما لاكثر من مرة إرضاءً لرغبات جنسية دفينة ، او قد يجري تغييرات على وجهه باجراء عمليات تعديل وتجميل لتفاصيل معينه في وجهه او جسده ، ربما تكون احدى مرابض العقد التي تحتويها ترسانة العقد النفسية لديه ، او يسعى للحصول على شهادة عليا في أي اختصاص ومن أي معهد او جامعة حتى وان لم يكن معترف بها .
الأمر الآخر الذي يسمح للعقد النفسية ان تجد سبلاً للتعبير عن نفسها لدى شاغلي كراسي المسؤولية هو ليس غياب الرقابة فحسب ، وانما عندما يكون الفرد هو مصدر للسلطة او مفصل مهم من مفاصل تنفيذها وهنا تتحكم العقد النفسية في استجابات الافراد وتعاملهم مع الأحداث والأشخاص الآخرين ، فنجد سيطرة واضحة لصفة المطاطية في التعامل مع القوانين والواجبات والحقوق وبما يتناغم مع عقد النقص الدفينة لذلك الفرد ، ولتيسير اندفاع المكبوتات يحاول البعض ارتداء المزيد من الأقنعة والأثواب : الدينية والأخلاقية تارة والإنسانية او العشائرية تارة اخرى او مزيج منها لتمرير رغباته الدفينة وباعتماد عدد من الحركات التمثيلية التي تشير الى الورع والبساطة او التعاطف ، وبترديد بعض المصطلحات والجمل الثقافية والسياسية والاقتصادية والدينية التي قرصنها من هنا او هناك. اذن فان كرسي المسؤولية يمارس دور الميسر لتحرير عقد النقص وبالتالي دور المتحكم بالبنية النفسية لشاغليه ، بمعنى ان ادراك الفرد لذاته في إطار سلطة المجتمع والدولة تتداخل بتأثير سلطة الكرسي مع محتويات العقل الباطن ، وهنا فان دور الكرسي في تيسير تدفق عقد النقص لايختلف عن دور العقل الجمعي في صهر العقل الفردي بعقل الرهط او القطيع .
ان كراسي المسؤولية تقدم دون عناء بيانات واضحة عن طبيعة البنية النفسية لشاغليها ، فبينما يبذل المعالج النفسي جهوداً مضنية في رحلته الشاقة لسبر اغوار النفس الإنسانية عبر دهاليز وغابات وأحراش حافلة بالأشواك والمتاهات والرموز المبهمة مستخدما المزيد من مقاييس الشخصية واليات الكشف عنها ، يقدم الكرسي ببساطة صورة واضحة عن خبايا شخصية شاغله.
صديقي القارئ أختي القارئة يا من تشاطرونني لوعتي وحسرتي على بلدي المتدحرج باتجاه المجهول ، لكل عصر حماقته ويبدو ان من حماقات عصرنا الكراسي ، ان مجتمعنا اليوم بأمس الحاجة لوضع برامج تثقيفية توضح للمواطنين مالهم من حقوق وما عليهم من واجبات ، فضلاً عن وضع رقابة دقيقة وضوابط صارمة وإجراءات رادعة مباشرة تحد من التجاوزات التي يمارسها المتسلطين فوق كراسي المسؤولية ، ونجد من الضروري تشكيل لجان متخصصه في الصحة النفسية لاجراء المزيد من الاختبارات على المسؤولين لضمان سلامتهم او على الأقل تحييد تأثيرات بعض العقد والامراض النفسية التي تسيء الى العمل في مؤسساتهم وبالتالي الى المجتمع .