23 ديسمبر، 2024 2:33 ص

عقدة الخوف في مجتمعنا

عقدة الخوف في مجتمعنا

ان التربية العامة عندنا في العائلة والمدرسة والمجتمع تستند على مبدأ الخوف والتخويف . الخوف من الاب والخوف من المعلم والخوف من سخط المجتمع والخوف من السلطة والخوف من الجن والخوف من الاموات والخوف من العقاب الديني وهكذا . . حتى اصبح الخوف في المجتمع العراقي والعربي سلوك ملازم لافراده طوال حياتهم . فمنذ ايام الطفولة الاولى يتعلم الافراد الخوف من عقاب الاب على اتفه المسائل . وعند انتسابه للمدرسة ينشأ الخوف من المعلم . ثم تاتي بعدها المخاوف الاجتماعية المتعددة . وقبلها كان المللا يعلم التلاميذ بالعصا والفلقة . حتى صارت مقولة العصا لمن عصا هي السائدة في البيت والمدرسة ثم المجتمع . فاصبح جل النظام الاجتماعي والسياسي عندنا قائم على الخوف والتخويف . وحل الخوف محل كثير من المفاهيم الانسانية . فجاء الخوف من الاب محل المحبة والطاعة . والخوف من المعلم محل الاحترام . والخوف من الفقر محل القناعة . والخوف من المستقبل محل التفائل . والخوف من الله بدل تعظيمه . والخوف من المشايخ الاموات بدل ذكرهم الطيب . والخوف من الجن والاسياد بدل الايمان برحمة الله وعدالته . ثم اصبحنا نخاف من السلطة بدل التعاون معها لادارة شؤوننا حتى وصلنا الى الخوف من الفوضى حتى نتمسك بحكام فاسدين

ان الخوف يشل قدرات الانسان ويجعله قلقا ضعيفا عاجزا عن اتخاذ القرار او تقديم الحلول لمشاكله . ويغير سلوكه حتى يصبح مسلوب الارادة خاضعا لاهواء سلبية معطلة . وفي احينا كثيرة يكون تابعا لفرد او سلطة في اللاشعور . . ويرضى بعبوديته للغير دون اي احساس بشخصيته المستقلة ولايكون له اي دافع للتمرد او التحرر . وتغلب على شخصيته صفات الانتهازية والكذب حتى تصل احيانا الى تبرير تصرفات مستعبديه وتبني افكارهم . واذا ما وجدنا تمردا سيكون محدودا ومدفوعا برغبته في استبدال عبوديته وليس التحرر منها . وما ان تتغير السلطة حتى يعودون الى طبيعتهم المتأسسة على منطق الخوف . ويقنعون بالتسلط الجديد باعتباره المخلص الجديد

عندما تسلب ارادة الانسان بالخوف يصبح قدري يؤمن بالغيبيات لحل

مشاكله دون ان يكلف نفسه في البحث عن حلول منطقية من الواقع الذي يعيشه

والانسان الخائف يرفض التجديد ويتمسك بالقديم . وبالرغم من ان عمله لايكاد يسد رمقه فانه قانع خائف من زوال هذا النزر القليل الذي يحصل عليه . وهو في ذلك يتماهى مع السلطة في تبرير وجودها واستمرارها بنهب خيراته خوفا من المجهول . وعليه فان الخوف يمنع التجديد والتحديث ويقدس الافراد خوفا منهم او خوفا من قوى غامضة يعزوها الى الله كذبا لتبرير تصرفاته الجبانة فهو مجبول على الخوف من كل شئ .

ان التخويف سياسة سائدة عندنا منذ مئات السنين وتتجذر اكثر فاكثر في

النفوس . لان السلطة الحاكمة تستثمر الخوف لتحقيق اهدافها وهي غالبا اهدافا انانية للحصول على مزيد من الثروة والسلطة

ان شيوع الخوف لايقتصر على الناس البسطاء والاميين بل ان كثير من المثقفين يخافون ايضا من زوال لقمة العيش , ويخافون من انتقاد الناس ونقمتهم , فالراي الجمعي يجعل المثقف منبوذا اذا ماخرج عن سلطة الخوف السارية في المجتمع . ناهيك عن السلطات الحاكمة وتهديداتها المتواصلة لحد الاعتقال واجبارهم على تعظيم الاستبداد . بل هو يخشى ايضا من عقاب الاخرة , رغم علمه ان رحمة الله وسعت كل شئ وان الله الرؤوف العادل ابعد مايكون عن الظلم والجور ومجانبة الحق

وهكذا اصبح الجميع يخاف التغيير والتقدم والكل يخاف من الكل . واذا ما نادى احدهم بالحداثة او تجديد الخطاب الديني مثلا قامت الدنيا ولم تقعد . وكم من مربي فاضل او مفكر حاول اصلاح المجتمع فاتهم بالكفر والزندقة وفرضت عليه اقسى العقوبات , ليكون عبرة للاخرين حتى لايخرجون عن سكة الخوف الازلي . كما نرى كثير من الناس تمجد التقاليد البالية والقيم العشائرية او التاريخ الغابر او الطقوس الدينية المتخلفة المستندة على اوهام ما انزل الله بها من سلطان . دون ان يستطيع احد من الناس معارضتهم او انتقادهم والا سيكون مصيره في خبر كان . ان ظاهرة الخوف المتجذرة في الضمير العراقي والعربي تعززها سلطة الدولة وماتمتلكه من اذرع قسرية وعمليات انتقامية ترتكب باسم الدولة ويتم الترويج لها عبر الوسائل الاعلامية على انها حماية للمواطن وللوطن

والمواطن في احيان كثيرة مدفوعا بالخوف يدافع عن هذه السلطة , حتى التبست عليه الامور ولايعلم اين الصح من الخطأ لكثرة المعايير الخاطئة التي يحملها والتي تاسست بداخله عن طريق التخويف الذي تربى عليه منذ صغره

في حالة واحدة يخرج فيها المواطن عن طوع السلطة والتمرد عليها . وذلك عندما ينتمي الى حزب يعتقد انه سيكون سندا له في مواجهة السلطة . . وما ان ينتصر الحزب على السلطة حتى ينتقل الخوف الى المسؤول الحزبي وقيادة الحزب ومن ورائهما سلطة الدولة الجديدة . وهكذا

في العراق وتمهيدا للسلطة الجديدة بعد الغزو الامريكي شاهدنا منشورات كثيرة معلقة في المحلات والشوارع , تحذر من هادم اللذات اي الموت وتشرح كيف يتم دفن الانسان مع التذكير بوجوب الالتزام بالدين , ويقصد منه الانصياع لرجال الدين او الاحزاب الدينية ودخل الحزب الاسلامي (اخوان العراق) على الخط ايضا مع بقية الاحزاب . وجرت بعد ذلك اكبر حملة للتثقيف الطائفي باسم الدين . وشهدنا مهرجانات وفضائيات تعيد روايات الماضي وتحشد المواطنين للانظمام الى الاحزاب الدينية . السلطة الجديدة في العراق الديموقراطي . وهنا تجذر الخوف التاريخي للعراقي باضافة التخويف الديني لتسهل السيطرة عليه واستغلاله فاصبح يخاف السلطة ويخاف رجال الدين المؤيدين للسلطة , فتضاعف الخوف عنده . . فتضاعفت سلبيته , وسلبت ارادته وزاد ايمانه بالغيبيات لحل مشاكله الجديدة الناتجة عن السلوك المشين للاحزاب الحاكمة والذي ادى الى حرمان المواطن من ابسط حقوقه الانسانية مع انعدام التعليم والصحة والخدمات العامة وبقي المواطن مسلوب الارادة لايجد حلا لكل هذه الازمات الجديدة , وانهالت عليه رسائل التواصل الاجتماعي تحت ذريعة الامنيات وماورائها من تثقيف ديني متخلف يعود لماضي سحيق اعيد احيائه لنشر الغلو , وتحقيق الاحتراب الداخلي باسم الدين واصبح الايمان ليس بالله وعظمة الخالق وانما الايمان بخرافات وسحر وشعوذة واقوال شيوخ الاسلام الغابرة . وهذا يعطي راحة نفسية مبنية على الوهم وتدفعه للخضوع التام للسلطة واساليبها الملتوية . ومن جانب اخر خرجت علينا دولة الخرافة الاسلامية . داعش لتقدم مزيدا من الخوف والرعب باساليبها الوحشية من قطع الرؤوس والحرق والابادة الجماعية لكل من يعارضها . واستغلت السلطة ذلك لشحن مزيد من الافكار المتطرفة والحصول مقابلها على مزيد من الطاعة واغماض العين عن فسادها وادارتها السيئة المتخلفة

وازاء تظاهرات المواطنين في بعض المحافظات لتوفير الحد الادنى من الخدمات نجد الاساليب القسرية والارهابية تجاههم الى حد الاعتقالات واستخدام الرصاص الحي لمواجهتهم . كما تم اغتيال بعض قادة الرأي من الكتاب والشعراء . وعادت نغمة الخوف والتخويف من خلال الادعاء بان المظاهرات ستؤدي الى الفوضى حتى يتم القبول بالحكام الفاسدين على راس السلطة فاستسلم المواطن او كاد لمشاعر الخوف العام ولم يجد حلا الا في انتظار المجهول او المخلص الخارجي

وهنا لابد لنا من اعادة النظر في التربية والتعليم . وتقع على عاتق النخب الاجتماعية نشر الوعي بين الناس لمكافحة الخوف الاجتماعي والخروج الى فضاءات الحرية البعيدة عن سياسة التخويف لما لها من اثار ضارة على الفرد والمجتمع .