لم أصل حتى الليلة إلى لبّ العلّة . بدا الأمر كما لو أنه لعبة ختّيلة . مرآة الحمّام أخبرتني بثقة عالية ، أنّ وجهيَ يشبه وجهّ ليمونة نامتْ في جارور البرّاد ، عشرة أيّام . أوجاع اليوم كثيرات ، منها ذلك الشعور الغامض ، بأنَّ عظامك مطحونة في هاون ، واللحم بالكاد ، يتراصص فوقها . صداع قويّ ، وطنين ذبابي ، من الصنف الذي يستضيفه رأسك ، بعد أن تقصفه من دون رحمة ، نشرة أنباء المساء المخجلة . أعدتُ الأمر إلى السمكة المشوية التي التهمتُ نصفها ، ظهرية اليوم القائم علينا ، لكنَّ هذا التأويل التعسّفي ، لم يرقْ لأمّونة الطيبة ، التي أقامت المنقل فوق رملة السطح ، ذاهبة به صوب شارع أبي نواس ، ألمازالتُ ذكراه العاطرة ، مسكوفة على تاج الرأس . في الواقع ، لا أتذكّر أنني أكلتُ يوماً ، سمكةً مسكوفةً ، فرجتها تسرُّ الناظرين ، على انحناءة دجلة ذلك الشارع البغداديّ البديع . سأضع فكرة أنّ السمكة ، ربما كانت عتيقة ، وهي التي سمّمتني ، فوق تاج الإحتمالات كلِّها . من مصادفات الزمان الحسنة ، هي أنني كنتُ وقعتُ في دكان أنغام أبي فؤاد ، على أغنية مجوّدة بحنجرة مطربٍ رافدينيٍّ ، شردَ اسمه من بوصلتي الآن ، تتماهى جداً وحتماً مع حالة جسمي القائمة منذ أربع لياليَ متصلات . تنفتح الأغنية على موّال جنوبيّ دامٍ ، وتنغلق على طقطوقةٍ مجرور كراعها ، من أسّ الموّال . أذكر أنني لم أكن تحمّستُ كثيراً لنصّ الموّال ، لكنني ربما طربتُ على تلك الطقطوقة الغادرة . ألحقّ ، والحقّ يجب أن يُعترف به ، حتى وإن كان رأسك ، مبطوحاً تحت يمين سيّافٍ مستعجل ، هو أنني لم أطرب ، لا على الأغنية ، ولا على موّالها الجبان . ألتوصيف المقبول والمنصف ، هو أنني كنتُ أشرق من قوة الضحك ، آناء سماعي الأغنية ، خاصة إذا كانت طاولتي ، عامرة ومشعّة بالكأس العاشرة . قد يكون النصّ الملوّن بالغناء والسلطنة ، سخيفاً وممجوجاً ، لكنّ ابن آدم الطمّاع ، قد يخرج منه ، بفائدة عظمى لا يردّها إلّا البخيل . سأشبعُ السطر الفائتَ ، بأغنيتين وقعتا على سمعي ، طرباً وعافية وفائدة ، وكانتا قد تنزّلتا من حنجرتي الراحلين المذهلين ، داخل حسن ، ونسيم عودة . من فوائد الأغنية الجسام ، إنّ داخلاً في نصّه المجوّد ، قد حدّد طول الليل ، بإثنتي عشرة ساعة ، لكنّ نسيماً ، كان خالفه ، فجرَّ فاتحة الموّال ، على أنّ الليل هو عبارة عن إثنتي عشرة ساعة وساعتين . لم أحزن ولم أتبلبل ولم أتخبّلْ بسبب هذه الربكة ، وحتى أقع على الجرح وأستريح ، قمتُ بتفكيك وإعادة قراءة وإنصات ، للموّالين النائحين ، فوجدتُ أنّ الراحل نسيم عودة ، قد أضاف للّيل ساعتين ، لأنّ مقصده هنا – مقصد الشاعر ربما – هو ليل الشتاء الطويل ، وربما يكون صاحبه داخل حسن أبو كاظم الفقير ، قد سلطنَ بالغناء ، في واحد من شهور السنة ، التي يلبس فيها الليل ُ النهار ، بالتراضي . جسمي يتفكك ، ورأسي تثقل ، لذا سأستعجل في قصّ حكاية علّتي . طقطوقة المغني ، النائمُ وصفها ، في رقبة المكتوب ، تنحو منحى الوضوح ، إذ يهرج ويلحّ في أوّلها ، على أنَّ ” ألّلِبنْ للمسموم ، مِنْ يشربه ايطيب ” وهذا هو الصدر ، أما العجز ، فلا أظنني بحافظ له ، لكن بمستطاعي أن أتذكر جوهر معناه وزبدته ، التي أرادها الناصّ ، أن تسدَّ مسدَّ معمعة ثقبتْ صدر البيت ، وفيها زاد أنَّ علّته الراسخة ، لا شفاء منها أبداً أبداً ، وأنا منذ ثلاثة أيام وليلة ، خزّنتُ ببطني ، لبناً رائباً ، ربما ساوتْ كميته ، تلك التي أنتجها معمل لبن أبي غريب ، كلَّ سنوات الحرب ، التي لم تشبع ، إلّا بعد أن قعدتْ على ثمانيةٍ ، وكأس سمٍّ مشهورة .
[email protected]