6 مارس، 2024 4:38 ص
Search
Close this search box.

عطَشُ الأنهار

Facebook
Twitter
LinkedIn

( إنَّ سرَّ الخليقةِ حيَّرَ الفكرَ الأنساني ) محمد مهدي الجواهري
هناك حكايةٌ قديمةٌ يتداولها الناسُ ، تقولُ : انَّ رجلاً حكيماً كان يحملُ فانوساً مضيئاً في وضح النهار ويتجولُ في الطرقاتِ ، فتعجَّبَ الناسُ من أمرهِ وسألوهُ : لماذا تحملُ فانوساً والشمسُ مشرقةٌ ؟؟ فأجابهم : انني أبحثُ عن ( الأنسان ) وأبحثُ عن ( الحقيقة ).. فضحكوا عليه واتَّهموهُ بالجنون … وهنا نتساءل مَن هو المجنون هل هو صاحب الفانوس ؟ أمْ الناس الذين
ضحكوا عليه هم المجانين ؟؟ … أردتُ من هذه المقدمة ان تكون مفتاحاً لموضوعٍ شغلَ الكثيرين وهو: لماذا كان المبدعون والحكماء والفلاسفة والشعراء وحتى الأنبياء ، يعانون في حياتهم ولم يحصدوا من الحياة غير الألم والعذاب والآهات والمعاناة ؟؟ وهذا مالمسناه ومازلنا من خلال قراءة سيرتهم واخبارهم وكتاباتهم التي هي ترجمة حقيقية وصادقة لمشاعرهم وافكارهم ومايفيض به وجدانُهم . هل لأنهم كانوا لايريدون التمتّع بالحياة وملذّاتها ؟ أم لأنهم عاشوا في زمان غير زمانهم ؟ هل السبب في عذاباتهم ان لهم عقولاً وبصائرَ وأفكاراً تتقاطع مع الآخرين ؟ هل كانوا يبحثون عن حلمٍ هاربٍ ؟ .. لقد كان دهرهم قاسياً مما اضطرّهم احياناً الى المداراة وقبول العيش بين الأعداء والأضطرار الى مداراتهم وهذا مانلمسه في قول أبي ّالطيّب المتنبي ( ومِنْ نكدِ الدنيا على المرءِ أنْ يرى …… عدُوّاً له مامن صداقتهِ بُدُّ ) .. لقد كان احساسُهم بالغربةِ قوياً ، غربة روحية ربما سببها خيبتهم في الأنسجام مع الآخرين ومع الواقع .. فكانوا يعيشون بين واقعٍ مؤلِمٍ مريرٍ وحلمٍ شاردٍ بعيدٍ ، وهذا شاعر العرب الكبير طيّب الذكر محمد مهدي الجواهري كان يستقبلُ ( الأرقَ ) بالترحيب ويفرش له حدقاتِ العيون حين يقول : ( مرحباً ياأيها الأرقُ …. فُرِشَتْ أُ نْساً لكَ الحُدَقُ ).. ويقولُ ايضاً ( يانديمي انَّ الذكاءَ عناءٌ …. في محيطٍ يُدلّلُ الأغبياءا ) . وماهو سِرُّ حنين بدر شاكر السياب الى الموت ؟؟ هل لأنَّ الموتَ جسرٌ يعبرُ من خلالهِ الى عالَم السعادةِ المطلقة ؟؟ وهل انَّ راحته تكمنُ في أعماق الأرضِ ؟ ولماذا يعتقد انَّ موته انتصارٌ ؟ حين يقول : ( أودُّ لو غرقتُ في دمي الى القرار …. لأحمِل العِبْءَ مع البشر …. وابعثُ الحياةَ .. انَّ موتي انتصارْ ) .. وهذا ابو العلاء المعري الشاعر الفيلسوف يقولُ ( تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أعجبُ …….. إلّا مِنْ راغبٍ في ازديادِ ) .. أما المتنبي العظيم الذي ملأَ الدنيا وشغلَ الناسَ والذي نامَ ملءَ جفونهِ ومازال الباحثون في حواراتٍ ونقاشاتٍ حوله والذي كان شِعرُهُ سمفونياتٍ تعزفُ حكمةً وتفيضُ دروساً في الحياةِ كما تفيض الأنهار لتروي الأراضي العطشى .. عاشَ وماتَ وهو يهيمُ في ارض الله قلقاً متألّماً رافضاً للواقع الذي كان يعيشه .. حيث يقول ( كفى بكَ داءً ان ترى الموتَ شافيا …. وحسْبُ المنايا انْ يكُنَّ أمانيا ) … وقبلَ أيام استمعتُ الى الشاعر الكبير مظفر النواب فهزّني بيتٌ في قصيدةٍ ( خُبزه وسْتِكيّنْ شاي وراحة بال تكفيني ) . الكل يبحث عن راحة البال فأين هي راحة البال وأين تُباع وعند أي عطّار ؟؟ والأنبياء لماذا حورِبوا وبشتى الوسائل والأساليب علما انهم رسُلُ اللهِ في الأرض والى الناس ؟ وهاهو الجواهري يقول عن معاناتهم : ( وإذا شِئتَ فاسألْ الأنبياءا ….. تجدَنَّهمْ أضاحياً أبرياءا ) . والسؤال المهم هنا هو لماذا يتعذب الناسُ الخيّرون وأصحاب العقول والمفكرون والحكماء ؟؟ وهل أصبح العقلُ ونَفَسُ الخيرِ نقمةً على اصحابهِ ؟؟ هل لأنهم يعيشون أزماتٍ وان الرياح تجري بما لاتشتهي سفنُهم ؟ ولماذا كانوا يحاربون بسيف الفرسان رافضين الواقع ، اذن ماهو السر الدفين وراء اولئك العمالقة الذين خلدهم التاريخ .. نعم لقد كانوا اصحاب قضية واصحاب رسالة وهدف وعاشوا في عصور اختلفتْ فيها الأهواءُ وتعددتْ المشاربُ واشتد الصراع بين الخير والشر ، لكنهم لم يقفوا وقفة المتفرج او المحلق في سماء النظريات .. لقد رموا انفسهم في كل معتركٍ وضربوا على وترٍ جميلٍ لتخرج تلك الأنغام لتداعب العواطفَ والعقول والضمائر والقلوب . لقد ملأوا حياتنا حلاوةً وحكمةً حين حوّلوا أفكارهم الى مشاعر متدفقة وهذه الأفكار هي التي اكسبتهم القيمة التاريخية والجمالية على مر العصور . يقول المتنبي : ( ينالُ الفتى من دهرهِ وهو جاهلُ …. ويكدى الفتى من دهرهِ وهو عالِمُ ) .. ويقول الشاعر الدكتور محمد حسين آل ياسين ( أنا مِنْ آهٍ وطينٍ جُبِلْتُ ) . لماذا هذه الآهات ولماذا هذا الأحساس بالأسى العميق ولماذا هذه الغربة ؟ ولماذا اصبحتْ المنايا أمانيا ؟ عندهم … هل انهم كالانهار العذبة المتدفقة ويشكون الظمأ ؟؟ واذا عدنا الى ابي العلاء المعرّي الذي طلّقَ الحياةَ ومافيها من مساحاتٍ مضيئة رغم قساوتها ، فقد أوصى انْ يُكتبَ على قبره بعد وفاتهِ : ( هذا ماجناهُ أبي عليَّ … وماجنيتُ على أحدْ ) اي ان الشاعرَ اعتبرَ وجوده في الحياة جنايةً سببها أبوهُ ولذلك هو لم يتزوج من أجل انْ لايجني على أحدٍ ( حسب رأيهِ ) .. وأخيراً نتمنى ان نسمع من ذوي الأختصاص في تاريخ الأدب العربي وعِلم الأجتماع ، أجوبةَ موضوعيةً وشافيةً لكل التساؤلات التي شغلتْ الباحثين ..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب