يوم قرأت كتاب ايتاليو كالفينو ( مدن لا مرئية ) أول مرة وكانت تلك المدن الخيالية التي بناها تحت اجفاننا كالفينو تضيء في سعادة متعة القراءة والفوانيس التي تجلب لكَ في ليل الاهوار اطياف مدن لا تبنى من القصب وسفائف سعف النخيل ، بل هي مبنية من الرخام واللازورد والفيروز الاخضر .
مدن سحرت الامبراطور المغولي قبلاي خان وهم يشاهد هندستها الخيالية من فم الرحالة البندقي ( ماركو بولو ). وسحرت الشاب ( عطيوي فريضة دويش ) الذي جاء الينا نقلا كعامل خدمة مؤقت بعد ان غرقت مدرستهم اثر فيضان صنعته الامطار الغزيرة اخر آذار. والذي كان قد ابتنى له صريفة صغيرة بجانب سكن المعلمين لينام فيها وهو من استمع بدهشة لما نصفه في خيال صناعة المدن المبتكرة التي وضع اسسها كالفينو في مدنه ، والغريب انه كان يتدخل في النقاش ويسألنا كيف للمدن المبنية من حجر أن تكون طافية بين الماء والغيوم ؟
أحاول أن اشرح له إنَ البعض من عظماء القص في التراث الانساني جازَ لهم أن يجلبوا لنا اشياء لا تخطر على بالنا ولكنها قد تكون دفينة في اعماق كل منا .
قال : ما يتحدث عنه صاحبكَ ، حتى الجني لا يستطيع أن يبنيه ؟
قلت : ولكن الخيال يستطيع ان يبنيه يا عطيوي .
ضحك وقال : خيالكَ هذا لا يشبه صريفة القصب ولهذا هو لا ينفع المعدان .
قلت : اذن عليك ان تنقطع عن السماع ، وأذهب الى هناك ، الى صوت ( راشد ) في ابوذياته التي يطلقها من مشحوفه القادم من جهة الجبايش.
قال : سأذهب بالرغم ان هذا الرجل الذي تتحدثون عن ولايته العجيبة قد صنع فيَّ الشوق لرؤيتها .
قلت : ترى ماذا ؟ هي ليست موجودة اصلا .؟
قال :اشعر انها موجودة وسأراها ذات يوم ، اشعر واحلم بذلك.
قلت :انت تحول القصب الى رخام وهذه البيئة لا تصلح لهكذا تحولات .
سأل السؤال الذكي وقال : لماذا اّذن تأتون بهذه الكتب الى هذا المكان ؟
قلت :لاننا نريد أن نهرب من لسع البعوض.
قال : وانا ايضا ؟
ضحكت وقلت :اهرب هذا من حقك.
ويبدو أنه هرب فعلا حين سنحت له الفرصة في بداية تسعينات القرن الماضي وصار لاجئا في رفحاء بعد أن تم وقوعه اسيرا في حفر الباطن يوم استدعوه لخدمة الاحتياط ، ولكنه رفض العودة الى قريته بعد نهاية الحرب. ثم اخذته البعثة الهولندية ليعيش في لاهاي ، وحين اخذ الجنسية الهولندية كان حلمهُ ان يعيش بجنيف فأنتقل هو وعائلته.
اليوم اقف على بحيرة جنيف أتأمل في صفاء مياهها هياكل المدن السحرية التي كان يرسمها لنا الرائع ايتاليو كالفينو في اسطرته لمدن قد تصادفكَ في محطة ما ، وهاهي جنيف وبحيرتها والمباني المضاءة بالرخام والجرانيت والتي صار عطيوي موظف الخدمة اللاجئ الى مدرستنا بسبب واحد من طوفانات نوح ، يعيش فيها مثل أي مواطن سويسري .
اضحك واتمنى لو اعرف عنوانه ، فقط لأهديه نسخة بالفرنسية لكتاب كالفينو……!