لم يكن دجلة والفرات مجرد نهرين يجريان في أرض الرافدين، بل كانا شريان حياة يهبان البلاد خصبها وكرامتها، واليوم يُحاصران بالعطش وتُحاصر معهما حضارة بأكملها. فتركيا وإيران شيّدتا السدود العملاقة وحبستا الماء خلف الجدران الخرسانية غير عابئتين بحقوق العراق ولا بروح الاتفاقيات الدولية، بينما الحكومات المتعاقبة وقفت عاجزة تراقب الأرض وهي تتشقّق والأنهار وهي تذبل والناس وهم يلهثون خلف قطرة ماء.
يزيد التغيّر المناخي النار وقوداً، فالأمطار شحيحة والحرارة ملتهبة والصحراء تزحف على الحقول والقرى، في حين أن الإدارة الداخلية بدلاً من أن تنهض لمواجهة الكارثة، تركت طرق الري البدائية تهدر ما تبقى من ماء، وتركت شبكات مهترئة تتسرب منها الحياة، وسمحت للتلوث أن يحوّل النهرين إلى مجرى موبوء.
إن هذه الأزمة ليست قضاءً وقدراً، بل هي صرخة يجب أن تتحول إلى فعل. يجب أن يتحرك العراق بدبلوماسية قوية وبموقف سياسي صلب ليحمي حصته المائية، وأن يفرض احترام حقه التاريخي في دجلة والفرات، ويوازي ذلك إصلاح داخلي جذري يوقف الهدر ويشيع الزراعة الذكية ويوفر خزيناً استراتيجياً للأجيال القادمة. كما أن وعي الناس وترشيدهم للاستهلاك لم يعد خياراً بل سلاحاً بيد المجتمع في مواجهة العطش.
إن الصمت أمام عطش الرافدين خيانة للتاريخ وللحاضر وللأطفال الذين سيكبرون على أرض جرداء إن استمر هذا الإهمال. الماء حياة، وإذا جفّ دجلة والفرات جفّت معهما هوية العراق وحضارته.

أحدث المقالات

أحدث المقالات