22 نوفمبر، 2024 11:59 م
Search
Close this search box.

عطشان ضيول الأيزرجاوي

عطشان ضيول الأيزرجاوي

الشيوعية والجيش والثورة: أحلام وكوابيس*
كان عطشان ضيول الأيزرجاوي أحد الشيوعيين العسكريين الذين امتازوا بالجرأة والشجاعة والإقدام، لذلك كان محبوباً من قبل الضباط والجنود، حيث عمل في قيادة الخط العسكري للحزب الشيوعي بُعيد ثورة 14 تموز عام 1958.
ينحدر عطشان من عشيرة آل ازيرج في الناصرية، وقد انتقل مع عائلته إلى بغداد في الفترة التي انتقلت والدتي ووالدي من الناصرية إلى بغداد أيضاً. ولأن والدته كانت قريبة لوالدتي، فقد سكنتا في محلة واحدة هي “محلة الدوريين”، وكان عطشان منذ صباه قد انخرط في العمل السياسي، وإزداد نشاطاً حين دخل الكلية العسكرية وتخرّج منها ضابطاً.
ولكنه في السنة الثانية بعد تخرّجه منها أُلقي القبض عليه وأودع السجن، حيث خضع أثناء ذلك إلى عمليات تعذيب قاسية وشديدة على يد شرطة بهجت العطية مدير التحقيقات الجنائية، وقد تحدّث عن ذلك التعذيب خلال إدائه للشهادة أمام ” محكمة الشعب” ورئيسها العقيد فاضل عباس المهداوي. وقال إن من بين وسائل التعذيب التي مورست ضده كانت إرغامه على الجلوس فوق المدفأة النفطية الساخنة،إضافة إلى اجباره الجلوس على القناني الزجاجية المكسورة والفارغة. وكان هذا التعذيب استثنائياً وقد تم ممارسته في العراق لأول مرّة ضد السجناء والمعتقلين الشيوعيين.
كانت وزارة الداخلية والتحقيقات الجنائية تعتبران عطشان ضيول الايزرجاوي فريسة كبيرة لأنه ربما يكون عضواً في قيادة الحزب الشيوعي آنذاك، ووقع بأيديهم صدفة وأنه قد يكون مشرفاً على قطاع الجيش، كما علمت لاحقاً بأنه قد التقى وهو لازال صبياً أو شاباً بالرفيق فهد في الناصرية.
كان عطشان مربوع القامة وذا شارب كث، ووجه عريض وخشن وكنتُ قبل أن أراه أسمع والدتي تتحدّث عنه كثيراً وتذهب خصيصاً لزيارة والدته في رأس الشارع المؤدي إلى سوق عيسى وعلاوي الحلة. وكان يأتي إلى البيت متخفياً، ولكنه حينما يدخل البيت ويخرج لا يتهيّب من السير الاعتيادي في الشارع. وكان الشرطي السرّي يتصوره مسلحاً ولا يقدم على التعرّض إليه، ولكن بعد فترة، كما أتذكر،ازداد عدد الشرطة السرّية التي تراقب بيته ليل نهار، إلّا أنه مع كل ذلك كان يأتي إلى البيت بين الحين والآخر ولكن بصورة مفاجئة. وأتذكّر جيداً أنه كان يضع جريدة تحت إبطه الأيمن ويمشي في الشارع في غاية الشجاعة دون خوف أو وجل ليبدو وكأنه يحمل مسدساً متحدّياً الشرطة الواقفة قرب الباب، وفي بعض الأحيان يمرّ قرب باب بيتنا ويتوقّف برهة من الزمن كي يلقي بالتحية على والدتي، ثم يأخذ بمداعبة الصغار ويمسح رؤوسهم بلطف شديد وأنا منهم. وكانت حركات ساقيه غير متوازنة نتيجة تمزّق عضلات إحداها بسبب التعذيب الذي تعرّض له.
انقطع عطشان كلياً عن زيارته لبيتهم بعد أن كثرت مراقبته من قبل الشرطة السرية التي كما سمعنا قررت اعتقاله مرة أخرى. لكن الحيرة بدأت تشغل رجال الشرطة بعد أن علموا بأن زوجته “أم نضال” تبدو حاملاً. وهذا يعني أنه كان يأتي إلى البيت تحت جنح الظلام ويخرج منه باكراً دون أن يعرف أحد من هؤلاء الشرطة بمواعيد رجوعه إلى البيت لذلك أخذوا يراقبون البيت طوال الليل كي يمسكوا به. ولكنه انقطع كلياً عن المجيء إلى البيت، واستمرّ الحال حتى قيام ثورة 14 تموز، حيث عاد إلى الجيش وأصبح آمراً مساعداً لقائد المقاومة الشعبية العقيد طه البامرني.
كان عطشان أحد أقوى أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، ومسؤولاً عن الخط العسكري. وقد سمعت من الضابط الطيار الشيوعي السابق عبد النبي جميل بأن معظم الضباط وحتى ضباط الصف ما بعد ثورة 14 تموز كانوا لا ينفذون أي أمر يأتيهم إلاّ أوامر عطشان الذي أخذ يتجول بين المعسكرات المختلفة للقاء الضباط والجنود وترتيب أمورهم، وكانوا يدينون له بالولاء بشكل كبير وكان بإمكانه أن يزيل عبد الكريم قاسم ويستلم السلطة.
كان سلام عادل الأمين العام للحزب الشيوعي يعتمد عليه كثيراً، وكان محسوباً على توجهه الثوري، وحين اصطدم الزعيم عبد الكريم قاسم بالشيوعيين،”انشقت” قيادة الحزب الشيوعي، فكان سلام عادل وجمال الحيدري وعطشان ضيول مع فكرة إزاحة الزعيم من السلطة وإبعاده عن الحكم، ولكن دون الانتقام منه، بل تكريمه والاعتناء به ولكن أخذ السلطة منه، في حين كان ثابت حبيب العاني وعامر عبد الله وآخرون ضد هذه الفكرة، فنشب صراع خفي بين تيارين، إذْ كان سلام عادل ذا خبرة تنظيمية وسياسية كبيرة، لكنه لم يكن حازماً، وإرتأى أن يأخذ قراراً بذلك بعد إشراك آخرين أساسيين في هذا الأمر.
أخبرني “آرا خاجاودور” خلال إحدى جلساته معي في براغ بأن عطشان كان الوحيد على حق. فحين اجتمعنا بمنطقة السكك لبحث الأمر تصدى ثابت حبيب العاني بقوة لرأي عطشان مؤيداً من قبل عامر عبد الله الذي كان يتودّد لعبد الكريم قاسم كثيراً.
أما سلام عادل فقال يجب أن نؤجل الأمر بعض الوقت إلى أن أذهب في سفرة خاصة سريعة إلى موسكو لأخذ رأي القيادة السوفياتية. وكان هذا الموقف قد أجهض رأي عطشان في الحال وبدا الرأي الآخر هو السائد.
قال لي “آرا خاجادور” إن اللجنة المركزية آنذاك أبعدت سلام عادل إلى موسكو وقد تحوّل العديد من أعضائها ضده، بما في ذلك زوجته “أم ايمان”، إلّا عطشان ضيول وأنا وقليل من الرفاق بقينا متواصلين معه.
سألتُ ثابت حبيب العاني في لندن عن حقيقة هذا الأمر وقلتُ له: هل هذا صحيح يا أبا حسان؟ حاول أن يتذكر الموقف جيداً ولأنه يبدو قد سبق له أن دخل في صراعات عديدة مع عطشان حينما كان الثاني مسؤولاً عن الجيش فإنه استمر حتى تلك اللحظة يمقته، فبدلاً من الإجابة على سؤالي هذا بدأ يكيل الشتائم لعطشان ويصفه بـ”المتهور”، ولكنه توقّف في اللحظة التي قلتُ له: لماذا تغضب بهذا الشكل فلعلمك أن عطشان هذا هو من أقربائي.
اعتذر أبو حسان وحولّ الحديث إلى موضوع آخر.وحينما عدتُ إلى البيت، اتصل أبو حسان بي هاتفياً وقال: أرجو أن لا تكون قد غضبت مني فقد هاجمتُ “عطشان”. قلتُ: لا لم أغضب أبداً لأنه أقرب إليك وإن كان من أحد أقاربي، ودخلنا في حديث آخر يختلف قطعاً عن قضية عطشان.
أسفر هذا الاختلاف عن تغييرات عميقة في سياسة القيادة الحزبية حيث انتصر خط “الإبقاء على عبد الكريم قاسم” بعد أن عاد سلام عادل من موسكو. وتبع ذلك ارسال أو “نفي” عطشان إلى الاتحاد السوفيتي بحجة كونه يحتاج إلى الدراسة في المدرسة الحزبية هناك. وذهب إلى الاتحاد السوفيتي غير أن أخباره انقطعت منذ ذلك الحين، بل وانقطعت عن أهله ومعارفه، والذي اتضح لاحقاً أنه وضع بيد السوفييت الذين منعوا عليه الاتصال بقيادة الحزب أو مغادرة البلاد إلى أي جهة أخرى.
وكان جهاز الـ”كي جي بي” KGB يتابعه بدقة، وقد عرف أنه بذلك قد أزيح كلياً عن المشهد السياسي في العراق.
وحين وقع انقلاب شباط 1963 كان لا يزال في موسكو وقد علم بالضربة الماحقة التي تعرّض لها الشيوعيون في العراق، وقرر الهرب من مكان إحتجازه السياسي في الاتحاد السوفيتي، وتمكن كما يبدو من الحصول على جواز سفر مزور بواسطة الحزب الشيوعي الأردني. وقد أشيع خبر هروبه من المكان المحتجز به، ولكن لا أحد يعلم إلى أين اتجه. فقد قرّر التوجه إلى ألمانيا الشرقية– سابقاً – حيث يوجد لديه هناك العديد من الأصدقاء أحدهم فوزي الذي كان قد التجأ إليها بعد أن حدثت له مشكلة في منطقة “الجعيفر” بمنطقة الكرخ عام 1962.
كان فوزي شيوعياً، وقد تعرّف على عطشان عبر أحد اللاجئين العراقيين بألمانيا. وكان هذا اللاجئ محسوباً على خط الكفاح المسلح بعد إقامته في ألمانيا. واهتم به الاثنان وأخذا يقدمان له المساعدات، حيث حاول في ذلك الوقت إعادة بناء الحزب الشيوعي، فأصدر نشرة حزبية ضد قيادة اللجنة المركزية. وفي تلك الفترة ذاع صيته أكثر من السابق، واعتبر الشخص الأول الذي فكر في إطلاق “حركة الكفاح المسلح”، هذا ما كتبه كاظم السماوي صاحب جريدة “الإنسانية” أيام الزعيم عبد الكريم قاسم في أكثر من مقالة في مطلع السبعينات في المجلات الفلسطينية كـ”الهدف” و”الحرية”.
كان السماوي معجباً بـ”عطشان” إلى حد كبير، بحيث يعتبره أهم شخصية سياسية انطلقت من قلب الجيش العراقي، وعملت في صفوف الحزب الشيوعي بطاقة سياسية مذهلة. والشيء نفسه كتب عنه أحد أكبر الكتّاب السوريين والمقصود حيدر حيدر في روايته التي دارت أحداثها حول الشأن العراقي، وتحديداً تجربة الحزب الشيوعي العراقي وحركة الكفاح المسلح. ولكن الكاتب وقع في خطأ غير مقصود،إذْ أشار في روايته الموسومة “وليمة لأعشاب البحر” بأن عطشان ضيول هو الذي أسس حركة الكفاح المسلح في جنوب العراق وهو الذي قاد المقاتلين فيما بعد.
هكذا كلام لم يكن صحيحاً لأنّ عطشان في فترة اندلاع حركة الكفاح المسلح في أهوار العراق في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي لم يكن موجوداً في العراق وإنما في الاتحاد السوفيتي ومن ثم في ألمانيا ويبدو أن الكاتب اعتمد على روايات بعض العراقيين الذين كانوا معجبين بشجاعة وبطولة عطشان.
إن حركة الكفاح المسلح في أهوار العراق التي اندلعت بُعيد انقلاب شباط عام 1963 كانت محدودة وضعيفة للغاية، ولم تتطوّر إلّا في الفترة التي ترافقت مع انشقاق عزيز الحاج وبعد ذلك. ولكن البدايات كانت عبارة عن جيوب للمقاتلين الذين سبق لهم أن هربوا من المدن أو المحافظات إلى الأهوار حماية لأنفسهم من أزلام الانقلاب والحرس القومي.
غير أن التحوّل الكبير لحركة الكفاح المسلح ربما بدأ بعد إعلان أمين الخيون عن تجميع عدد محدود من المقاتلين وانضمام وجوه جديدة وفعالة في هذه الحركة، كالمهندس خالد أحمد زكي، الذي كان يعيش في بريطانيا، وكذلك مظفر النواب بعد هروبه من سجن الحلّة مع مجموعة من المناضلين عام 1967.
كان خالد أحمد زكي الداينمو الحقيقي لحركة الكفاح المسلح، وكان متأثراً بتجربة المكافح والمقاتل العالمي جيفارا.وفضّل هذا المناضل الكفاح المسلح على حياة الرغد وتحوّل إلى مناضل بمنتهى الشجاعة والإباء واستشهد وهو واقف
بقي عطشان متخفياً لدى أحد أصدقائه قرب مدينة “نورنبرغ”، لكنه بعد فترة بدأ يشعر بشيء من المخاطر المجهولة الهوّية، فقرر الانتقال إلى برلين. وفي برلين استقرت حالته بعض الشيء ولكن طبيعته التي تعود عليها لم تتركه منكفئاً، فقد بدأ يفكر جدياً في إعادة بناء التنظيم، إذْ كان خبيراً بالعمل السري لأن معظم حياته قضاها متخفياً، لكنه في هذه المرة أراد أن يبدأ من الصفر، فكانت أولى نشاطاته في برلين هي إصدار نشرة حزبية تبشر ببناء حزب شيوعي جديد. واستطاع عطشان في ألمانيا أن يجمع عدداً لا بأس به من الشيوعيين القدماء الذين وجدوا أخيراً القائد المطلوب. واستمر بعض الوقت في العمل على تأسيس خلايا جديدة إمتد نشاطها إلى الخارج، إضافة إلى إعادة بعض المنقطعين عن الحزب.
بعد فترة من العمل السري المحكم جاء الشخص المعني بالصلة الحزبية، كما هي العادة ولم يجده في البيت فاستغرب كثيراً لأنه كان على موعد معه، وحين انتظر قليلاً أمام شقته بدا يساوره الشك من حدوث شيء ما، فقرر العودة إلى بيته والاتصال به لاحقاً، لكنه بدل أن ينزل إلى الطابق الأرضي مشياً على الأقدام قرر استخدام المصعد الكهربائي الذي يخترق الجزء المفتوح من البناية. وحين أطل من على كابينة المصعد إلى الأسفل لاحظ وجود جثة إنسان مطروحة على الأرض، نزل إليها في الحال وتفاجأ بأنها جثة مسؤوله الحزبي “عطشان”، فصرخ بأعلى صوته “لقد قتلوك”، وأخذ يبكي بصوت عالٍ مما دفع بسكان البناية إلى التوجه نحوه واتصلوا بالشرطة فوراً والتي حضرت إلى المكان ونقلت الجثة في إحدى سياراتها.
وبعد إجراء المسح الميداني على الجثة والمكان سألوا عنه الأصدقاء فعرفوا هوّيته من خلال جواز سفره الأردني. ثم اتصلوا بالسفارة الأردنية. حيث تطلب الأمر قضايا عديدة حتى يتم نقله إلى بلده، إذْ لم يكن لأحد أن يعرف بوجوده في ألمانيا إلّا ثلاثة لأنه كان متخفياً. ولم تكن مصلحة للمخابرات الألمانية بقتله ولا حتى البعثيين العراقيين لأنهم لم يكونوا في السلطة آنذاك. وتوجهت الاتهامات نحو معارفه أي نحو “كي جي بي” أو الحزب الشيوعي العراقي الرسمي.
وعلى الرغم من أن الخلافات الداخلية أكثر حدّة وضراوة من الخلافات مع العدو، الأمر الذي يرجّح احتمالات الانتقام، سواء بتصرف فردي أو لمجموعة قليلة من الأفراد، لكنني أسقط الاحتمال الثاني لأن منهج الشيوعيين العراقيين طوال تاريخهم لا يحبّذ الاغتيالات السياسية للأشخاص، وإلّا لكانوا اغتالوا أول من خرج عليهم وتواطأ مع العدو وهو “مالك سيف”. وأعتقد أن الحزب الشيوعي بريء من قتل عطشان ضيول، لأنني متأكد بأن قيادة الحزب سابقاً ولاحقاً لا تتخذ من هذه الأساليب لتصفية الخصوم أو الشيوعيين المنشقين عليها.
لقد كانت طريقة قتله تدل على احتراف كبير للأشخاص الذين ارتكبوا هذه الجريمة. فقد تبيّن انهم رموه من الطوابق العليا إلى الأرض ولم يستخدموا الرصاص لكي لا يقال إن القاتل هو عنصر عسكري مدرّب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فقرة من كتاب يصدر قريباً للدكتور مهدي السعيد بعنوان ” الجذور” وهو عبارة عن مذكرات للكاتب مع عنوان فرعي ” من أزقة الكرخ العتيقة إلى براغ ولندن ودمشق – سيرة مناضل”.

أحدث المقالات