الكرد العراقيون إلى أين 2
لا يظنَّنَّ أحدٌ بأن هناك مواطنا عراقيا واحدا ذا عقل وضمير ووعي وإنصاف لا يحترم الشعب الكردي الشقيق ولا يتمنى له الخير والأمن والسلام الكردي، ولا يفصل بينه وبين بعض قادته الذين نختلف معهم في بعض شعاراتهم وسياساتهم المدمرة.
ولكن من مجمل سلوكهم فيما يقرب من نصف قرن يحق لهذا المواطن أن يسأل، لماذا يعشقون مدَّ جذورهم دائما إلى الخارج، ويمنعونها عن شركائهم وأشقائهم في الوطن؟
ويسأل أيضا، لماذا يَجهَد قادة الحزبين (الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني) في سبيل بناء جسور التفاهم والانسجام والتلاحم مع تركيا وإيران وإسرائيل وأمريكا وبريطانيا وفرنسا، وتعزيزها وتمتينها، ولكنهم يفعلون كل غريب وعجيب من أجل حرق الجسور التي استخدموها عشرات السنين للعيش مع أشقائهم العراقيين بسلام؟
فالسيد مسعود البرزاني يرفض رفعَ العلم العراقي إلى جانب العلم التركي في قاعة لقائه مع المسؤولين الترك في زياراته القليلة لأنقرة. ويرفضُ زعماء حزب الاتحاد الوطني رفعَه أيضا في زياراتهم المتواصلة لطهران، لأنه علم صدام حسين، ويرفعون مكانه على الإقليم.
لكن ذلك المواطن العراقي لا ينسى هرولتهم إلى القصر الجمهوري، والتماس الرضا والقبول من صاحب العَلم المرفوض.
فهل من حل نهائي وجذري لازدواجية الولاء المزمنة هذه، لنريح ونستريح؟ وأملا في قطع دابر العتاب والتلاسن والتلاطش بالاتهامات والشكوك، وخَلاصا من القلق والانزعاج، يطالب المواطن العراقي، آسفا ومُنكَّدا، حكامَ المنطقة الخضراء حلفاءَ الحزبيْن الكرديين بمنح شركائهم الكرد حرية الانعتاق من هذه الوحدة الوطنية الورقية الفاشلة، ومساعدتهم على إقامة الدولة التي يدعو أن تولد مستقلة، وأن تعيش مستقلة، ليريح ويستريح.
ورغم أن الجميع تعودوا على هذه البالونات الاختبارية، والابتزازية المتواصلة، فإن من الحسن الكبير ما فعله السيد مسرور البرزاني، وليُ عهد أبيه، حين أنهى بتصريحاته الأخيرة صيغة المواربة والمخاتلة، وافتتح صيغة الوضوح والمكاشفة، وعلق الجرس، وأعلن أنه لم يعد مواطنا عراقيا بعد اليوم.
فقد أثبت الواقع المر أن شراكتنا معهم، عبر عشرات السنين، شراكة قسرية كسيحة، مفروضة بحكم الحاجة، وضعيفة ومهزوزة لا تملك قدرة الوقوف على قدمين.
فمن أول أيام تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 وهُم وحكامُ بغداد، معا، يتوجسون خيفة من بعضهم، ويمارسون أنواعا مبتكرة من المؤامرات المتبادلة الهادفة إلى إضعاف بعضهم بعضا، مع كثير من التعالي المبطن، والحقد المكبوت، والهُزء، والتنكيت.
فلم تهدأ جبهات الحروب المستترة والمعلنة بينهما إلا لماما. وحتى حين كانت نارها تخبو قليلا، من حين إلى حين، كانت شرارتها تبقى متوهجة تحت الرماد. والأخطر من كل شيء والأكثر
ضررا أن جميعهم يستخدمون الشعارات القومية لجعل جماهيرهم البريئة المضللَّة والمخدوعة وقودا وحطبا لنيران تلك الحروب.
وقد ثبت، بالوقائع التاريخية المثبتة، أنهم جميعا غير صادقين. فلا السياسيون العراقيون، شيعة وسنة، قصروا في سرقة أبناء قبائلهم وطوائفهم وأديانهم، أو ذبحهم، ولا السياسيون الكرد أنصفوا جماهيرهم في كردستان العراق التي لا تكف عن الأنين من احتكارهم للسلطة والثروة، وديكتاتور يتهم التي لا تختلف في شيء عن ديكتاتورية من سبقهم من حكام.
والدعوة السلطوية الكردية إلى الانفصال، حتى وإن كانت شعارا يستخدم عن الضرورة وعند الضيق، مِعولٌ غير مخلص وغير نزيه يضرب روح المواطنة في الصميم، ويقتل الهوية، أو يفسدها، خصوصا في الأجيال الجديدة التي لا تتقن قراءة التاريخ.
إنهم بتكرار هذه المواقف والشعارات الالتوائية يقامرون بحياة شعبهم، ويأخذونه إلى مجهول. إنهم يطردون عصفورا (وطنيا) في اليد، ويَجرون وراء عشرة عصافير(غائبة) عن الشجرة. مع العلم بأن أحدهم يحتل منصب رئاسة الدولة، وآخرين منهم يقودون أهم وأخطر وزاراتها، ورغم أنهم يقبضون من الشعب العراقي كل شهر، وكل عام، أموالَ قارون، ثم لا يدفعون رواتب أشقائهم الموظفين في حكومة الإقليم.
من عام 1921 وهم يتظاهرون بأنهم ليسوا ضد الشعب العراقي، ويؤكدون أنهم فقط ضد الحكومات الاستبدادية العراقية المفروضة بقوة السلاح، وأنهم يناضلون، مع قوى التحرر العراقية الأخرى، من أجل تحرير الشعب العراقي من الديكتاتورية، وإقامة نظام ديمقراطي عادل وعاقل يوفر للمواطن، مهما كان دينه أو قومه وطائفته، حياةً حرة كريمة، خلافا لما كانت حكومات بغداد المتعاقبة تفعله في أيام حكمها البغيض.
لكنَّ الذي جرى بعد سقوطَ نظام صدام بدبابات الجيش الأمريكي، من تقلبات وتحالفات وصراعات، أثبت أن قادة الأحزاب الكردية يَكنُون كـُرها غير محدود، وغير مقبول، وغير مبرر، لكل العراقيين، حتى لأولئك الذين كانوا، مثلَهم، ومعهم، ضحايا حكام بغداد، على مر السنين، وذاقوا مرارة ظلم ذوي القربى أكثر كثيرا جدا من السياسيين الكرد الذين كانوا وما زالوا يمارسون تهريب النفط والدخان مع أبناء الحاكم، أيِ حاكمٍ يجلس في أحد قصور الرئاسات الثلاث.
وبين هذا وذاك نزف دم كثير، واحترقت بنار حروبهم مدنٌ وقرى عديدة، عربية وكردية معا، ودُفن أهلها تحت أنقاضها.
وهاهم اليوم، وحسب تصريح السيد مسرور البرزاني، مُصرون على إشعال المزيد من الحرائق، وعلى إقامة المزيد من المآتم، لتخريب ما لم يتخرب بعدُ من هذا الوطن السليب.
أنهم عودونا على سياسة مسك العصا من وسطها بين المتقاتلين من محترفي السياسة في بغداد، فلا يمنحون عطفهم لهذا أو ذاك من المتصارعين على المكاسب والمناصب والرواتب إلا بمقدار ما يقدمه لهم من هدايا ومنافع.
وقد أطلقها السيد محمود عثمان صريحة مدوية، ذات مرة، حين أكد تمسك إخوته في القيادة الكردية بثوابت وشروط لخوض المفاوضات لتشكيل الحكومة، أهمها:
“تحديد مصير المناطق المتنازع عليها، والتي أسماها بالمغتصبة، من إقليم كردستان، والمشاكل العالقة بخصوص مسألة البيشمركة حرس الإقليم، وقانون النفط والغاز”. و “الأقرب للكرد من يلبي مطالبهم. وكانت لنا تحالفات مع الائتلافيْن، (ويقصد الائتلاف الشيعي وائتلاف دولة القانون)، وبرغم ذلك نفضل الحوار، والكتلة التي تلبي مطالبنا سنقترب منها”. وتابع قائلا “إن من مطالبنا أيضا رئاسة الجمهورية وأخرى وزارية بحسب استحقاقنا السياسي والانتخابي، وكل هذه الأمور ستبحث ضمن صفقة واحدة.”
الخلاصة. إن هذه الأساليب الابتزازية التي يظن حكام الإقليم أنها شطارة سياسية لا تمس مصالح الشلة الحاكمة في المنطقة الخضراء، لا بالقليل ولا بالكثير، بل تعني تَخلي الملايين الكردية عن شقيقتها الملايين العراقية العربية وغير العربية، المسلمة والسيحية، وهي في أشد الحاجة إلى نصرة الشقيق والصديق، وهي تعارك صناع العتمة والأم والخراب، وتتركها وحدها دون نصير. فهل هذه هي المواطنة المنتظرة منكم أيها الأشقاء؟