19 ديسمبر، 2024 2:57 ص

لا اعرف من أين جاءت كلمة خانة ولعل المتفقهين باللغات الشرقية وخاصة الفارسية والتركية يعرفون معنى ( الخانة ) التي تأتي دائما في نهاية الكلمات مثل الخستخانة والجايخانة والبولسخانة والحيدرخانة وعلى هذا المنوال سوف نكرس موضوعنا اليوم على المزربخانة واليكم تفاصيل الحكاية    !..
ذات مرة اخبرني احد الصحفيين المخضرمين .. عند انطلاق قطار المربد من بغداد إلى البصرة وبعد منتصف الليل وحين حركت النفوس وطابت روحيا اندهش الحضور من تصريحات فنان قدير هو بدري حسون فريد الذي قال وفي ذروة النقاش عن سمات العصور الحضارية وتفسيراتها الفلسفية فيما يخص عصر المزربخانة حيث قال الرجل لي تفسيرا خاصا للحضارة يختلف عن تفسيرات المؤرخ  ( ارنولد توينبي ) وعن رؤية (  ول ديورانت ) مؤلف قصة الحضارة وتتركز رؤيتي _ والحديث مازال للفنان بدري حسون _ بأنني أفسر الحضارة من خلال ملاحظة ( المزربخانة ) وعندها ضحك الجميع لهذا الطرح العجيب والغريب .
وأنا اليوم وبعد مشاهداتي المؤلمة لما حل ويحل في العراق من تخلف وضياع استذكرت ما قاله الفنان فريد حول المزربخانة .. ويقصد بها المكان المخصص لقضاء حاجة الإنسان والآليات المتبعة ، فالبدوي والريفي يذهبان لقضاء حاجتهم في مكان مفتوح ولهذا يسمونها بلهجتهم أروح ( أطير حاجة ) والمظهر الآخر الذي انتقل إليه البدوي والريفي إلى المدينة فاوجدوا فتحة يمارسون فيها قضاء الحاجة وهي اليوم المعمول فيها بعد أن امتدت إليها أنواع الطرق الحديثة ، أما المستوى الثالث هو درجة أخرى من الرقي الحضاري هو استخدام التواليت الغربي وما يرافقها من مستلزمات صحية وعصرية وعطرية ومناديل ورقية .
أما موقع المزربخانة فترتبط بعادات وتقاليد أهمها المكان واتجاهاته المعاكسة للقبلة وأبوابها التي لا تسمح بالرؤيا وبعضهم يدمجها مع الحمام وآخر يصر على بدويته ويخصص ( WC ) بمكان خارج البيت وهنا ( مربط الفرس ) .
تشير إحدى الاستطلاعات عن التطور الحضاري للعراق بعد 2003 إلى أنهم تراجعوا إلى الوراء وراحوا يمارسون طقوسهم البدوية والريفية ، فقد انتشرت مؤخرا ظاهرة المزربخانة الخارجية في اغلب الأحياء في بغداد خاصة تلك التي شهدت زحفا غير مقدس وعمليات حوسمة واسعة النطاق ، فبدلا من أن تتحول مدينة الثورة والشعلة وحي التنك والعبيدي إلى أحياء راقية مثل الجادرية والمنصور وحي الجامعة فقد حدث العكس حيث انتقلت هذه الهجمة إلى اغلب المناطق التي كانت راقية في الرصافة مثل زيونة وشارع فلسطين وراحت تفرز القطع السكنية الكبيرة إلى قطع سكنية لا يزيد حجم البعض منها على 50 مترا وهي اصغر من مساحة بيت من بيوت التنك .
لقد تحولت هذه الأحياء المستحدثة والأزقة إلى ما يشبه أشكال بيوت الهنود الحمر أو السلف في الأرياف العراقية وهذا الفرز المخالف للقانون يعبر عن ظاهرة جديدة وفقيرة هي الهبوط بمستوى المدينة الحديثة حضاريا وثقافيا حيث سترتفع الكثافة السكانية في المتر المربع الواحد بدرجة عالية فيما يؤشر انخفاضا خطيرا في مستوى الخدمات والتمدن في هذه الأحياء الجديدة والتي تمثل موقع المزربخانة في مدخل هذه الدور حيث ستكون ابرز العلامات للتمدن العراقي في القرن الواحد والعشرين .
إن المزربخانة التي ستلاحظها وتورثها الأجيال التالية ستعبر بدقة عن المستوى الحضاري والثقافي التي هبطت إليه البلاد بسبب ضعف الإدارة وتسلق عناصر انتهازية إلى أعلى المناصب ولذلك فقد استحق عصرنا تسمية عصر المزربخانة .
 [email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات