23 ديسمبر، 2024 7:00 ص

عصر السيادية ونهاية التعددية

عصر السيادية ونهاية التعددية

من الآن فصاعدا سنسمع الكثير من المصطلحات والمفاهيم المستحدثه لوصف ما ستؤول اليه اوضاع العالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية،متأثرة بالتداعيات التي خلفتها جائحة كورونا وايضا الفشل الكبير الذي اصاب آليات العمل الجماعي .
وسيترك وباء كوفيد-19 بالتأكيد بصماته على الجغرافيا السياسية العالمية، لكن تساؤلات كثيرة لا تزال تحيط بعواقبه، فهل يسدد ضربة قاضية للنهج التعددي المتداعي؟ وهل يصعّد الاستقطاب المتنامي بين الولايات المتحدة والصين؟ وهل يؤذن بعصر الشمولية الرقمية؟
فيما يلي ادناه بعض الاراء التي اطلقت اجراس الانذار من انحسار التعددية والعمل الجماعي الى السيادية والفردية وحتى عودة صراع القوميات .
يقول هنري كيسنجر ان العالم مابعد تداعيات ازمة وباء كورونا سيشهد رحيل النظام العالمي الحالي الذي عشناه طيلة 75 عاما .

يحذر وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف من ان انحسار العمل الجماعي والجنوح نحو الفردية كما يحصل الان في عهد ادارة الرئيس ترامب،من شأنه ان يفوت الفرصة مستقبلا امام المجتمع الدولي لابرام اتفاق جماعي مثل الاتفاق النووي مع ايران …

وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مقابلة أجرتها معه صحيفة لوموند ،قال ان عالم مابعد كورونا سيكون اسوأ مما قبله ، مشيرا الى (( اننا سنشهد مزيدا من الفجوات في النظام العالمي ..)).
.
دومنيك شتراوس المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي ،لخص المشهد القادم وقال(( المشكلة هي ان الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب تتراجع عن القيام بنهج تعددي لمعالجة التداعيات وبالتالي حصول اخلال كبير في النظام العالمي ..ما يترك الساحة للقوى الاخرى وفي مقدمتها الصين . ولكن المشكلة هي ان الصين ليس بمقدورها ان تسد الفراغات … ))

يقول زكي العيدي الأستاذ في كلية العلوم السياسية الفرنسية ((نحن في حقبة عودة النهج السيادي، وهذه الأزمة ستحض حتما هذه الدول على المضي أبعد في النهج السيادي)).
يقول باحث اخر (( ..ومن العواقب النادرة التي تبدو مؤكدة للوباء ،تسارع تدهور النهج التعددي الذي طغى في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف العقد الثاني من الألفيّة، تحت ضغط النزعة التوسعية الصينية الممنهجة من جهة، والنهج الأميركي الأحادي في عهد الرئيس دونالد ترامب من جهة اخرى )).

# منظمات جماعية عاجزة

مما سبق ،يبدو ان النظرة سوداوية للمستقبل المنظور ،ونسمع بكاءا في اعقاب رحيل حزين لنهج التعددية الذي نشا بقوة وفعالية ما بعد الحرب العالمية الثانية لغرض حفظ الامن والسلم الدوليين .
ويبدو ان البكاء حول سقوط التعددية وفي ظل غياب اي صيغة لنظام عالمي جديد .لا محل له .. فالتعددية فشلت في مواجهة الجائحة مثلما فشلت في ضبط ايقاع التنافس الصيني الاميركي ..
فاين هي الامم المتحدة من تفشي الجائحة..؟ واين هو مجلس الامن كسلطة قضائية عالمية لردع المسيئين وانصاف المظلومين ؟ وما الذي حصل لمنظومة الاتحاد الاوروبي حيال ماجرى وسيجري ؟
وماذا عن منظمة المؤتمر الاسلامي.. عدم الانحياز . شنغهاي . ؟؟؟!!
وماذا عن الكارثة في انهيار اسواق الطاقة في ظل عجز منظمة اوپك ؟
كثيرة هي منظومات واليات العمل الجماعي والتعددي التي يفترض ان تظهر نفوذها وتأثيرها في المحن والازمات ..
بناءا على ذلك صارا مفهوما ان العديد من الدول تجنح نحو الفردية في اتخاذ القرارات وابرام الاتفاقيات السيادية لحماية مصالحها حتى لو اضرت بمصالح المجموعة والاطار الجماعي الذي يفترض انها تنتمي اليه سياسيا او اقتصاديا او دينيا .كما حصل تصرف فردي من قبل دولة نفطية تسببت في انهيار اسعار البترول واضرت ببقية دول اوبك .
هذه النزعة الفردية في حماية المصالح الوطنية وظهور الحكومات على انها المنقذ والمخلص في المحن والازمات ،سيعزز النزعة الشعبوية والوطنية لدى الشعوب والمجتمعات
تقول ريجين بيرون مؤلفة كتاب ( وهم القرن الاميركي ) :
ان النهج التعددي يدفع ثمن الوضع العالمي الجديد ، سواء في منظمة الصحة العالمية التي قطعت عنها الولايات المتحدة التمويل، أو في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) التي فشلت في الحفاظ على أسعار النفط، أو في مجلس الأمن الدولي الذي “لا نسمع صوته له اطلاقا .
لكن ما الذي سينبثق عن هذا التفكك؟ هل تكون النزعة السيادية؟ التعددية بشكل جديد؟ أوهل ستكون الليبرالية منهجا محليا في نطاق الدول؟

منذ بضع سنوات تشهد العديد من الدول صعود القوى الشعبوية وحققت نجاحات في الانتخابات وهي ماتزال تطور الياتها وتنتهز الفرص والازمات والمنعطفات لترسيخ نهجها الوطني المحلي .،وهو ما شاهدناه في كل من ايطاليا والمجر وتركيا والفيليبين والبرازيل. فهل إدارة هؤلاء “الرجال الأقوياء” للأزمة الصحية سيعطي زخما للتيار الشعبوي؟
في اعتقادي ان نجاح الحكومات الشعبوية ،لا يتعلق في الاجراءات الصحية خلال ازمة وباء كورونا وانما في كيفية معالجة التداعيات الاقتصادية والسياسية.
ويبدو لي ان صعود الشعبوية سيتاثر بنجاحات وطنية ومنجزات حققتها دول مثل النرويج وفنلندا والدنمارك التي خرجت اقوى من محنة كورونا ،خاصة وان نجاحاتها تمت بمعزل عن اي دعم او تأثير من منظومة الاتحاد الاوروبي !.

#سقوط الريكارديه

أن الأزمة الصحية بابعادها الاخلاقية والاقتصادية ، ستحدث حتما تحولا طويل الأمد في الاقتصاد العالمي نتيجة استياء بعض الدول التي باغتها الوباء، ما سيعيد إلى الواجهة مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية وسيقود إلى التشكيك في عولمة شبكات التكامل في الانتاج والاستهلاك الجماعي التي بشر بها عالم الاقتصاد البريطاني ديفيد ريكاردو في القرن الثامن عشر حينها توقع ان يؤدي التطور الصناعي والازدهار التجاري الى تحفيز تطوير شبكات قيم عالمية جماعية للقرن الواحد والعشرين .

# العراق نموذجا

في مقالي السابق ( مابعد كورونا ..عالم متغير ) اشرت الى ان العديد من الدول في اسيا وافريقا ستكون في مهب الريح في مرحلة تصارع وتنافس الدول الكبيرة على احتكار التجارة والاستثمارات واسواق الاستهلاك وتامين مصادر الطاقة .
والمرجح في مرحلة الاصطراع، ستلجا دول مثل الولايات المتحدة الى العودة للمرحلة الاستعمارية وستزحف للهيمنة على الدول الغنية الهشة وغير الناضجة كالعراق ونيجيريا والمكسيك ودول في الخليج ،وقد تلجا ادارة ترامب من اجل تعويض خسائر اقتصادها الى اسقاط انظمة وتفكيك دول اخرى من اجل السيطرة على النفط الرخيص وايضا من اجل اقامة القواعد واحتكار الاسواق والاستثمارات .
ان على الدول المرشحة ان تكون ضحية الصراع العالمي ، ان تستوعب حقيقة ان النظام العالمي قد تغير ولم يعد احادي القطبية وان العصر الاتي هو عصر الدولة – الامة المتماسكة والقوية والناضجة في هويتها الوطنية والمكتملة العقيدة في بناء النظام والدولة وفي وضع الخطط التنموية العملاقة والثورية .
ان حقيقة كهذه ،بحاجة الى زعامات او جيل من القادة غير الذين يهيمنون اليوم على مشهد السلطة .
فؤلاء الجهلة الذي يعتاشون على ثروات شعوبهم الوفيرة ويحتكرون السلطة بما يخدم وجهات نظرهم القصيرة . . سيكون هؤلاء وبالا وكارثة ستحل على تلك البلدان.
ويتفق العديد من المختصين في علم النظم على ان دولا في العالم الثالث ولاسيما في المنطقة العربية ستضطر شعوبها الى الثورة والتمرد لازاحة الانظمة الحاليةوالتي سيظهر فشلها جليا في المرحلة التالية..اذ ستوجه اليها اصابع الاتهام بالمسؤولية .
ستحدث هذه الثورات ،مالم تبادر النخبة السياسية الى المراجعة والانتقال الى مرحلة البناء.. البناء الذي ينبغي ان يبدا من بناء العقيدة والهوية الوطنية كونها حاجة مصيرية لبقاء تماسك الكيانات والامم .