كثيرا ما تم إرجاع أصول الجغرافيا الحديثة إلى عصر التنوير. فالكتابات البارزة للكتاب الجغرافيين رسمت في هذه الفترة ملامح الجغرافيا الحديثة، وكان هؤلاء قد كتبوا بعقلية عصر التنوير. وهناك أعمال جغرافية أخرى في هذا العصر اندمجت على نحو كبير جدا مع حركة التنوير طوال القرن الثامن عشر، إذ تحررت المعرفة الجغرافية من السياقات الاجتماعية والثقافية السابقة التي انتجت في ظلها. بالتأكيد، شهد عصر التنوير إنتاج كتب جغرافية عالمية متعدد الأجزاء. والملاحظ أن التركيز الذي ظهر لأول مرة لتفسير العلوم الطبيعية عائد إلى الفيلسوف إيمانويل كانت (1724-1804) وبشكل واضح في عمله عام 1757 المعنون “موجز ونشرة لدورة محاضرات في الجغرافيا الطبيعية”، حيث درَّس الجغرافيا الطبيعية في جامعة كونسبرغ في بروسيا مدة أربعين عاما من 1756-1796. وقد رأى كانت بالتأكيد في الجغرافيا وسيلة لتوحيد التعلم، بهذا المعنى، من الممكن الادعاء أن فهمة للجغرافيا كان وثيق الصلة بشأن تفسير التجريبية empiricism العقلانية كأساس للمعرفة. وهناك ادعاء آخر يساق في هذا المجال يشير إلى أن مفهوم كانت للطبيعية باعتبارها نظاما ديناميكيا كان حجر الأساس في عمل الكسندر فون همبولت (1769-1859) خصوصا في تركيبه تساؤلات القرن التاسع عشر وتغيير التصور الجغرافي حيث يكمن هنا كشف الجذور الحقيقية للجغرافيا الحديثة، لكن هذا لا يعني صحة كل ما طرحه في هذا الميدان. وفي كتابه الجغرافي الضخم “الكون” يشير الى أن جوهر مشروعه هو “توضيح التواصل الداخلي بين العام والخاص.”
من الواضح من خلال التأملات الأولية أن العلاقات بين الجغرافيا وحركة التنوير كثيرة ومتنوعة. إذ كانت المعرفة الجغرافية جزءا فاعلا في معرفة التنوير. وفي مرحلة معينة من العلاقات الإمبريالية الأوروبية مع بقية العالم، تذكرنا تلك المرحلة بالطرق التي كان من خلالها التنوير والمعرفة الجغرافية مرتبطين بمفاهيم الامبراطورية.
الاعتراف بأن المعرفة الجغرافية، إذا جاز التعبير، كانت موجودة في كل مكان، ولكن ليست هي نفسها في كل مكان خلال عصر التنوير، إذ طرحت أسئلة منهجية ومفاهيمية ليس فقط حول طبيعة المعرفة الجغرافية لكن أيضا حول جغرافية المعرفة.
بحث الجغرافيون في أثر أصول المعرفة الحديثة بما فيها الجغرافيا خلال عصر التنوير. وفي وقت أحدث، جرت مراجعة الفكرة القائلة أن عصر التنوير ظاهرة أوروبية متأصلة. ففي بعض الكتابات في سبعينيات القرن العشرين وفي عمل لاحق، جرت مراجعة هذه الفكرة بطريقتين رئيستين. إذ جرى إيلاء اهتمام إلى أداء حركة التنوير في السياق الوطني خارج أوروبا، بشكل ملحوظ في الأمريكيتين. بالإضافة إلى ذلك، تم إيلاء المزيد من الاهتمام وبشكل مفصل إلى جغرافيات عصر التنوير في داخل أوروبا. فعلى سبيل المثال، كشف التحليل كيف أن أفكار التنوير نوقشت على نطاق واسع في أطراف أوروبا في اليونان وإيطاليا وبولندا وهنغاريا وروسيا وليس فقط داخل “القلب” الفرنسي. ويرد في كتاب “التنوير في السياق الوطني” الصادر عام 1981، تحرير بورتر وتيش، وهو عمل رئيس في هذا الميدان، أن الحسابات التقليدية لم تكن تقدر الموقع الجغرافي والاجتماعي والسياسي للتنوير على نحو كاف كحركة ثقافية. يهدف الكتاب إلى فهم معنى التنوير في مجموعة من السياقات الوطنية، من خلال النظر في تجربة انكلترا واسكتلندا وفرنسا وهولندا وسويسرا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وبوهيميا والسويد وروسيا وأمريكا. ومن دون سرد الادعاءات الخاصة بكل كاتب ساهم في تأليف هذا الكتاب، لكن يلزم استدعاء أرضية أفكار التنوير في ظروف اجتماعية واقتصادية وجغرافية معينة. فقد ساعدت الاختلافات الوطنية في استقبال هذه الأفكار سياسيا وتعليميا وشعبيا وعلى مستوى المؤسسات على تشكيل طبيعية مقاومة التنوير.
في الوقت الذي يمثل السياق الوطني للتنوير ميزة مهمة، إلا أنه بعيد عن أن يمثل الكلمة الأخير في جغرافية التنوير. إذ يحجب أحيانا حجم التحليل التباين الموجود داخل أمة معينة في إنتاج أفكار التنوير واستقبالها، وهنا لا نضيف شيئا جديدا لحقيقة أن فكرة الأمة نفسها كانت غير مؤكدة خلال هذه الفترة. وفي الواقع، تظهر الكثير من المقالات نزعة لإضفاء السمة الوطنية الأساسية للتنوير، إما من ناحية تحديد مميزات أو خصائص بلد معين أو الأخذ في الاعتبار حياة المفكرين الكبار الذين عاشوا في تلك الفترة.
يتم التعبير عن الجغرافيا هنا بوضوح، إما كمسألة موقع أو كمسألة مقياس واحد خاص بهذه الأمة أو تلك. ومع ذلك، تفهم الكثير من هذه الاعتبارات أفكار التنوير من حيث تباين استقبالها، إلا إنها لا تزال تصورها بشكل أساسي باعتبارها تجربة أوروبية وأمريكية شمالية. لكن مؤخرا أصبح واضحا على نحو متزايد أن التنوير الأوروبي تشكل أساسا من خلال التعامل مع أجزاء أخرى من العالم، وبشكل ملحوظ مع الأمريكيتين ككل ومع المحيط الهادئ. وعلى مستوى آخر، وفر الاستعمار ما أطلق عليه نيكولاس ديركس “مسرح لمشروع التنوير”، ولكن أكثر من ذلك، فقد تشكل التنوير نفسه أيضا بقوة من خلال الاتصال بالغرباء الآخرين. إذ تطلب الاتصال بالعالم الجديد لا الاعتماد على الجغرافيا كحيز وطني أو كفرع تخصصي ولكن كمجموعة من أفكار معينة وممارسات تشكلت من قبل شعوب وبيئات مختلفة. لكن هذا لا يتعارض مع فكرة أن تكون هناك جغرافيات وطنية للتنوير. فتفسير طبيعة التنوير في إنكلترا، على سبيل المثال، يسلط ضوءا مهما على طبيعية المجتمع الإنكليزي في القرن الثامن عشر وعلى الدور الحاسم الذي لعبه الفلاسفة الإنكليز في القرن السابع عشر في “أصول” فكر التنوير. وبالنظر إلى العلاقات بين الأماكن، من خلال استدعاء أفكار التنوير نفسها حيث يتم تحديد مواقعها وبأنها تتوافر على تاريخ اجتماعي وجنساني وحضور للمعاني التنازع عليها للجغرافيا والتنوير، شدد روبرتسون على كل من الطبيعية العالمية والمحلية للتنوير في فحصه للصلات بين اسكتلندا ونابولي في إيطاليا على سبيل المثال.
هذه الاعتبارات حول الطبيعة العالمية والمحلية المترابطة للتنوير – أي أنه لم يكن فقط ظاهرة وطنية – تعزز شكوك بعض الباحثين بالفكرة القائلة بأن وعي التنوير نفسه كان إلى حد ما وعيا جغرافيا مستندا على تميز جزء من العالم يسمى “أوروبا”. كما أنهم يدعون في هذا السياق إلى المزيد من الفحص المفصل وعلى وجه التحديد لكيفية صنع التميز وليس فقط باعتباره مسألة وعي.