18 ديسمبر، 2024 9:12 م

عصرٌ مثالي لفقدان الثقة

عصرٌ مثالي لفقدان الثقة

عام جديد هلَ على الشعوب والأمم، جماعاتها وأفرادها، وكل له  توقعاته ونظرته المستقبلية لما سيكون عليه وما سيحمله من أحداث. الفكر الإنساني الذي بدأ بأبسط رؤاه وأوليات مبادئه وقوانينه، ووصل لأعظمها في حدود زمننا، كان الاحتمال الأدق والأكثر ترجيحاً أن تصل البشرية في عمومها إلى المرحلة الأرقى في التفكير والأخلاق والتطور الحضاري.. وما حدث في الأعم فهو العكس. الحقيقة أن العام الجديد واليوم الجديد.. ليس غير تتمة لما قبله لا يمكن فصلهما عن بعضهما، فما خطط وأعد له مسبقاً تأتي توقيتاته المناسبة ليتحقق إن كان قد أحكم له، وكما نعتقد بمشيئة الله تعالى. إذ العلماء في شتى تخصصاتهم لهم توقعاتهم حول الأحداث القادمة، تستند إلى العلم والخبرة المسبقة، والتي يؤكدونها حينما ترتفع نسبتها، كما لهم توقعاتهم بما قد لا يحدث عندما تنخفض نسبة التوقع والاحتمال. لذا، فإن كان الناس فيما مضى يستقبلون أيامهم والسنين بكثير من الحيرة والتساؤل عما سيحدث، هم اليوم ليسوا كذلك، فما عادت الأيام تأتي بجديد كثير. كما والأهم من ذلك أن كثير وبشكل خاص ضمن واقعنا المجتمعي بكل تأثيراته ومؤثراته ما عاد يحفل بما قد يحدث، فالحماس للجديد أو توقعات التغيير للواقع المرفوض، تمسي بأقل حماس كلما زادت الاحباطات وتعددت جوانب الإعاقات وكثرت أسباب التراجع والتخلف في كل المستويات، فمن ذا الذي يحفل. والمدهش في الأمر، ما زال الناس يتحدثون ويؤكدون معاناتهم وقد أخذوا مسبقاً مساحة واسعة ومفتوحة للتعبير عنها وخلال فترة زمنية كبيرة كان يمكن أن تتغير خلالها الأحوال إلى أفضل ما يكون. نسمع ونشاهد ونعي تلك النكسات والخيبات والمظلوميات، كل ذلك الغدر وتلك الخيانات…فإذا بك أمام مشهد مبالغ فيه يعكسه من يدعون الأحقيات يريك أن الكل مظلوم، الكل مغدور، عجباً!، إن كان الكل مظلوم أو مغدور..فمن الظالم، من الغادر والخائن إذاً !؟ ومن جانب آخر نرى من يُهون الأمور ولا يقدرها حق قدرها، ويبدو مندهشاً ومتسائلا عن وجود المظالم فعلياً، وكأن العالم كله بخير ولا مشاكل.
    حقيقة إن واقع البشر يفتقر إلى الصدق، ومؤشر واضح على ذلك كثرة التعرض للقسم أو الحلف بالله في معرض أي حديث، حتى لا نكاد نجد من يخوض في أي موضوع دون أن يقسم ليصدقه الآخر مهما بلغت درجة معرفته أو صداقته وثقته به. بالتأكيد ليس هذا بجديد على البشرية. الملفت أننا نعيش زمناً سادت فيه الحريات، وأقول الحريات فإنها عديدة الأوجه والأشكال والأهداف..وفي المجمل الناس يتحدثون بما يريدون، ويتصرفون كما يحبون رغم كثير من التبطن الذي تستدعيه بعض المصالح التي يراها صاحبها فيختار لنفسه ما يحب والخيار له، مع وجود الاستثناءات في مقدار الحرية وإمكانية الاختيار. وبرغم كل هذا يبقى الكثير لا يفضي بنواياه ولا يعبر عن اتجاهاته الحقيقية، وفي هذه المرة ليس خوفاً، بل أسوء من الخوف بكثير، إنه الآثار التي تركتها طبيعة الحياة للإنسان في بلادنا، جعلته لا يثق بالآخر مهما بلغ من الصلاح واقعاً. إن فقدان الثقة بالآخر مقترن بالافتقار إلى الصدق، وبالتالي فقدان الأمان، وإن فقد الإنسان الأمان صار يحتاط، فيتخذ لنفسه المواقف والسبل للإحتماء والوقاية بكل ما أمكنه في موقف دفاعي مسبق، أو موقف هجومي إن سنحت له الفرصة أمام من عدهُ عدوه أيضاً في حكمٍ مسبق وكأنه مقبل على ساحة حربٍ كان قد صمم على أن يكون النصر فيها حليفه، ومستخدماً كل الأسلحة الممكنة، المشروعة وغير المشروعة، ومبرراً سلوكه بحقه في الحفاظ على نفسه وكل ما له صلة به قبل أن يباغته الآخر كما يتوقع ويتصور!!. وكذلك يفعل الآخر، وكل على حساب الآخر، حينها، يصبح المبدأ أمانٌ على حساب أمان. وبالنتيجة، فالكل مظلوم وله حق، ولا أمان لأحد. وبهذا المبدأ وغيره من مثيلاته والآخذة لأن تسود، يكون الناس قد ابتعدوا كثيراً، بل لأقصى ما يمكن عن كل ما دعت إليه الديانات السماوية، ونادى به الفكر الإنساني على مدى التاريخ في ضرورة التعايش السلمي، والتعاون لمواجهة التحديات بشتى أنواعها ومصادرها، والتي تواجها البشرية منذ أن وجدت. وبرأينا أن من ينكر وجود الظلم بأية درجة وفي أي شكل، وينكر وجود الظالمين فهو بالتأكيد إما منهم أو خائف منهم، وأن سنة الحياة ماضية بوجود العدل والظلم بنسبة ما تحددها ظروف البشر في كل زمان ومكان. وبما أننا نعيش عصر السباقات والمنافسات التي تفتقر للنزاهة غالباً، فلا شك نحن في أكثر العصور فقداناً للثقة بالآخر، مما يوجب الحذر بأكبر قدر دون اليأس من وجود بقية للخيرين وبالتالي للثقة، وهذا يتطلب جهداً من التمحيص والتحقق على مستوى فرد أو مجتمع حتى تتمكن الإنسانية من العثور على ضالتها التي تمكن من بناء جسور الثقة المتينة بينها، مما يجعل الأمر في كثير من الأحيان صعباً، وربما محبطا.