في خضم زماننا الحالي الذي أمسينا فيه دائماً مشغولين بشيء أو بآخر, والذي جعلنا نرتبط بأشياء لا يمكننا أهمالها والتخلي عنها من العائلة وأغراض المنزل إلى مسؤوليات العمل. نحلم جميعنا أن يأتي يومٌ نتحرر فيه من تلك القيود ونسافر إلى أرجاء العالم من دون القلق عما تركناه في الخلف, أو ربما أن نأخذ الحياة بمنتهى المرونة, نتقلب مع ظروفها كما تتقلب سنابل القمح مع الرياح, دون الخوف من الانكسار والخسارة.
يتوارد في ذهن الجماهير تصور خاطئ عندما يسمعون بمذهب العيش بخفة والبساطة. فهُم لا يحبون أن يطبقوا هذه الفلسفة على أنفسهم, ربما يرونه كصفد يقيد حريتهم ورغباتهم في جمع الأشياء, ربما يرونه كالعيش مثل الفقير. لا يريدون أن يصبحوا مثل غاندي الذي عاش ببساطة تامة حتى بدأ بتخييط ملابسه بنفسه, أو لا يريدون أن يصبحوا مثل الفيلسوف الأغريقي دايوجنيز الذي أتخذ من جرة النبيذ منزلاً له وعاش كالحيوانات. لعلهم يرونه كفكرة دينية يشبه حالة الزهد في الحياة ومذهب للصوفية أمثال الإمام الغزالي والحسن البصري والرابعة العدوية. هؤلاء مع جل الأحترام لهم ولأختيارهم عاشوا حياة بسيطة ولكنها ليست البساطة التي نطمح إليها جميعاً. فمن الصعب أن يعيش المرء ببُعد عن الناس, وعدم إمتلاك أغراض ضرورية ناهيك عن المرغوبة, أو العيش من دون ملابس وأطعمة متنوعة.
العيش بخفة تعني أخذ من الحياة ما هو ضروري ومطلوب وترك ما هو مرغوب وثانوي. وكذلك ترك ما هو غير مفيد أو أمسى غير مفيداً في الزمن الحالي بعد إن كان مفيداً في يوم ما أو سيصبح غير مفيداً في الزمن اللاحق ولا ينتفع منه في الزمن الحالي. لا تأخذ هذا التعريف بشكل الخاطئ, فهو لا يمنع الانسان من الركض وراء شهواته ولا يمنعه من الرغبات, بل المراد منه ان يترك الاشياء الغير النافعة والزائدة في حياته.
العيش بخفة هو مجموعة من القرارات تتطلب وعياً لتنفيذها ولا يخرج من طبيعة الانسان او من فطرته, بل يعمل فطرة الانسان بعكسه حيث يثمن كافة الاغراض ويبغض زوالها, ناهيك عن التخلص من تلك الاشياء بنفسه. لكن العيش بخفة لا يقتصر على الاغراض المادية ايضاً, بل يندرج تحته الافكار والمشاعر الزائدة, والعلاقات الاجتماعية المفرطة, والاقوال والافعال الهادرة لطاقة الفرد ووقته.
ما هو مطلوب وما هو مرغوب يختلف قليلاً بين شخص واخر ومن حال الى حال. الحاجات الثابتة عند الانسان لا يمكن التخلص منها مثل الغذاء والماء والدواء, والحاجات الاخرى تأتي حسب حال الانسان وحسب حاجته المؤقتة كحاجته الى سلاح عندما يحتمل استهداف حياته, او حاجته الى قلم عند كتابة الرسالة. الاغراض المرغوبة هي الاغراض التي نرغب باقتناءها ونشتهيها بعد تحقيق حاجاتنا.
أنواع العيش بخفة
هناك عدة أنواع للعيش بخفة, فقد يختلف مقدار العيش بخفة بين نوع وآخر, هناك رجال مثلاً لديهم القليل من الوقت الفارغ, لكن تراهم خفيفين في الماديات غير مُحّملين بأعباء ثقيلة, وهناك آخرون لديهم أماكن بسيطة وجميلة وخفيفة, لكن تراهم مسرفين في اوقاتهم, ليس لديهم حتى وقت للاسترخاء.
العيش بخفة زمانياً : وهذه هي من أولى الأمور التي يجب أن تضبطها لتكون خفيفاً فيها. يوجد عند العديد من الناس في الوقت المعاصر مشكلة عدم توفر الزمن, فهم يعملون لساعات متأخر من اليوم من أجل المجتمع طبعاً, لكن بالكاد لديهم االوقت الكافي لأنفسهم أو لعائلتهم. ليس لديهم متسع من الزمن لتأمل أحداث الأمس أو لتغيير الجزء السيء من حياتهم وعادتهم, دائماً يكونون مشغولين بالنظر إلى ساعتهم وانجاز روتينهم اليومي. العيش بخفة زمانياً تعني إفصاح مجال وقتي لنفسك من أجل التطور من خلال ترك فعل الأعمال الغير الضرورية أو التقليل من الاشغال الضرورية وتقسيمها إلى لقمات بسيطة ,أسبوعية بدلاً من اليومية أو شهرية بدلاً من إنجازها أسبوعياً. وهي تعني محاولة ضبط الوقت دون مزاحمته بعدة أشياء بحيث ترك مجال للخطأ أو السهو من الاشغال الضرورية والمرغوبة (التي من المستحيل إنجازها دون أخطاء أو سهوات والتي تتطلب وقتاً أضافياً من الفرد لتصحيحها, مما يخلق عبئاً على الشخص الذي ليس لديه وقت للخطأ), أو إزاحة زمان للراحة والحرية, حتى لو لم تكن تعمل شيئاً في ذلك الفترة المحددة للراحة, فهو ضروري لعدم تضييق جدول الاعمال إلى درجة مكثفة بحيث يصنع جواً كئيباً ووتيرة ذات نبرة واحدة بدلاً من المتنوعة والممتعة والشيقة.
العيش بخفة مكانياً : الفكرة من هذا هي تقليل من مساحة المستخدمة والحيز المحجوز من قبل الفرد إلى مكان ملائم وقابل للعمل فيه. وهذا يعني اختيار منزل مناسب حجمياً للعيش فيه, دون أن يكون كبيراً, أو العمل ضمن حيز معقول. الفلاحون يعلمون قيمة هذا المذهب عندما يختارون مساحة معينة للزراعة, فهم يعرفون حدود قدراتهم في الفلاحة حتى لا يسرفوا في زرع محاصيل لا يتمكنون من العناية بها وتحصيدها, لأن المساحة الزائدة هي جهد اضافي للفلاح. في العصر الحديث, معظمنا ليسوا فلاحين لكننا يمكننا أيضاً الاستفادة من هذه الحكمة بالعيش بمنزل بسيط واتخاض مكتب عمل مناسب, فحتى لو كانت فيها اشياء ثمينة ملفتة للنظر, ما دام المكان ليس كبيراً بشكل مفرط, فالانشغال باقتتناء اشياء ثمينة للمساحة لتزيينها سوف يقل لعدم وجود مساحة كافية لاستيعابهم. يمكنك شراء كل ما تحتاجه وترغبه من السوق, لكن يجب عليك ان تبيع شيئا من البيت بنفس حجم و وزن وقيمة الشيء الذي تشتريه. كثرة رحلات السفر ايضاً مذمومة, وزيارة الكثير من الاماكن تعتبر إفراطاً.
العيش بخفة مادياً : قد يبدو هذا الحديث معروف وشائع جداً, لكنه حقيقي بالرغم منه, كلما قل أغراض الفرد, كلما كانت حياته أكثر بساطة. نحن لا نتكلم هنا تقليل امتلاك الاغراض إلى حد المجاعة, مثلما يفعله بعض الزاهدين في الحياة, بل نريد أن نقع في وسط ما بين الإفراط والتقصير, دون أن نجتنب حاجتنا ورغباتنا في اقتناء الاشياء ولا أن نكثر منها بغير حدود, الزيارات يجب أن تقل إلى حد معقول.
العيش بخفة عقلياً : ينطبق مبدأ العيش بخفة أيضاً على المعلومات الذهنية وينقسم إلى ثلاث أقسام :
العيش بخفة فكرياً : يبحث الافراد في وقتنا المعاصر بيأس على طريقة لعدم التفكير كثيراً. بعضهم يلجأ إلى التأمل واليوغا والتركيز على التنفس للتخفيف من ضغوطات الحياة على الدماغ ومن أجل النوم هنيئاً في الليل, والآخرون يلجؤون للهرب إلى الطبيعة والعزلة أو اخذ حبوب مهدئة فقط للكبح من متطلبات الذهنية للحياة. التقليل من الماديات والمكانيات والزمانيات سوف تخفف بالطبع العبأ الذهني المفروض على وعي الانسان, لكن هناك بعض من الافكار التجريدية التي تنبع من العقل دون الارتباط بمحفزات الواقع مثل الخيال, وكذلك الافكار التحليلة القسرية التي نضع انفسنا فيه عند الدراسة أو العمل مثلاً. هذه الافكار التجريدية والتحليلية لا بد لنا من السيطرة عليها وتخفيفها بقدر الامكان, فعقولنا لم تُخلق لتعديد المهام والعمل شيئين أو ثلاثة في نفس الوقت مثل الحاسبات, لذلك من الضروري ترقيق افكار التحليلات والتخيلات طوال ما كنا واعيين في يومنا العادي. بعض التفكيرات المستقبلية البعيدة تجرنا نحو التعاسة غير الحقيقية, لاننا لا نعلم بالضبط ما هو قدرنا واحتمالية حدوث احداث في مستقبلنا البعيد, لذا ليس هناك داعي في اشغال عقولنا بها.
العيش بخفة شعورياً : كثيراً ما نرى في حياتنا أشخاص مفعمين بالمشاعر وتائهين في خضمها, هناك من يغضب بسرعة ويلقي اللوم على الآخرين, وهناك من يحزن بسرعة ويلقي اللوم على نفسه في كل حدث من احداث حياته, وهناك المتهور الذي يفقد السيطرة على ذاته ويسمح لمشاعره الحساسة بقيادة افعاله. نريد من هذا المذهب أن يرشدنا نحو إزالة كمية من تلك المشاعر – سواءاً كانت جيدة مثل الحب والسعادة أو سيئة مثل التعاسة والكآبة – لكي نعيش حياةً سليمة وطبيعية ونمنع أنفسنا في أن نكون ضحايا لِكم هائل من المشاعر المزيفة التي نستمدها من الافلام والمسلسلات وتطبيقات الهواتف, والمشاعر الحقيقية الزائدة ايضاُ من كثرة الاصدقاء والمعارف التي لم تكن لتتواجد لولا التقنيات الالكترونية وزيادة اعداد السكان. علينا أن نترك الماضي كذلك ولا نتشبت بها, , وخصوصا الذكريات التي تجلب مشاعرا سواءا كانت تلك المشاعر جيدة او سيئة. يجب علينا ان نترك ما يسمى “بالذكريات الجميلة” وكذلك “الذكريات الحزينة والمؤلمة” بعد ان نأخذ دروسا منهم, ويستكره استحضارهم الى الوعي من دون فائدة, فهو عبئ على الذاكرة والوعي.
العيش بخفة حسياً : يمكن لأحاسيسنا من الرؤية واللمس والتذوق أن تربك أيضاً من شدة الافراط, من الافضل تقليل المعلومات الواردة الى عقولنا عن طريق احاسيسنا. الاصوات العالية والاضواء القوية تضر بآذاننا وأعيننا, فيجب علينا أيضاً أن لا نغض بصرنا في رؤية اشياء غير ضرورية, ونكتم اذاننا في سماع اصواتا لا تمت بصلة بنا أو بمساعينا, وأن لا نشتم روائح مفرطة في فترات زمنية قصيرة. لكننا لا نريد أيضاً أن نكون مملين وذات نمط واحد وقليلي التجارب, التنوع الفرط في الاحاسيس هو كلها نسبية زمنياً, فالتنوع بالطبع مستحب ولكن مع وجود فترات زمنية متفاوتة بين تنوع وآخر (الزمان هو عبارة عن معلومات, فالافضل تزييد معلومات مختلفة بين احساس واخر أو حتى بين فكر واخر حتى لا نمل من الاحساس النمطي الموحد البسيط). يجب ان نقلل من الاحاديث غير الضرورية او ما يسمى فقط بالتسلية, لكن ليس بالضرورة ان نبخل في ذكر هذه الاحاديث والمطارب, فلا بأس به ولكن بشكل اقل.
الحياة تشبه معادلة رياضية يجب عليك حلها, هناك رحلة طويلة ما بين بداية والنهاية, ما بين السؤال والجواب. ويجب ان تبسط الطريق بينهما وتختزل كل ما هو قابل للاختزال وغير ضروري حتى يتسنى لعقلك التفكير براحته والوصول الى نتيجة صحيحة وبالطريقة صحيحة.
العيش بخفة يعني التحضر لكل شيء, فهو يعني عدم الاعتماد على الحكومة وقوانينها ودستورها, لان هناك اماكن وازمان لا يحميك فيه هذه القوانين, فمن الضروري ان تعرف كيف تعتمد على نفسك اذا اضطر الامر الى ذلك. وهذا جزء من العيش بخفة, لانك يجب ان تستثمر بعض من الوقت في فهم الاحتماليات التي ستحصل في حياتك وتستعد لفقد اشياء معينة في حياتك, ولكنها سوف تكون اقل ألماً من الاشخاص الذين يملكون الملايين, الذي سوف يأتي الامر لهم دفعة ثقيلة اذا لم يحميهم القانون.
يرتبط العيش بخفة مع ضبط النفس, وهو مهم عندما تريد اقتناء مذهب جديد مثل هذا وترك بعض الاشياء التي لا تحتاجها, والتي تعد مفرطة بالنسبة لك, يجب عليك ان تمنع نفسك من شراء وجمع حاجات زائدة, وكذلك علينا أن نضبط انفسنا من الافراط في الرغبات الاخرى كالاكل والجنس وبعض الاشياء المدمنة كالتكنلوجيات والانترنت والهواتف الذكية.
يرتبط العيش بخفة ايضاً مع فكرة الوسط الذهبي. في الحقيقية إنه يمثل جانب واحد من الوسط الذهبي, وهو عدم الافراط. الوسط الذهبي معناه أن لا تفرط في شيء ما ولا تقصر فيه, بل تأتيه بتوسط يلائمك ويلائم الظرف المفروض. العيش بخفة هو التوسط والتقصد في الامور جميعها, التقصد عن الزهد والتقصد عن الافراط, التقصد عن الجهل والتقصد عن التعلم, التقصد عن الاكل والتقصد عن الجوع, التقصد عن المشاعر وعن المنطق. فيجب عليك دائما ان تكون في الوسط, بل حتى أقل قليلاُ من الوسط, اي يجب ان يحمل عاتقك ثلاث ارباع ما يقدر أن يحمله عند التوسط.
نستطيع في زماننا الحالي مثلاً تحويل حاجاتنا الى رغبات, مثلاً يمكننا تحويل حاجة أجسادنا إلى الغذاء إلى رغبات يدمن عليه عقولنا من الاطعمة الشهية التي نأكلها حتى وإن لم نكن جائعين. لكن هذه القدرة الخارقة تعتبر شيئاً جيداً بالنسبة للذين يعيشون حياةً بسيطة وخفيفة, لأنه يمكن تحويل تلك المقتنيات القليلة التي نحتاجها إلى رغبات, يجب أن تتذكر إن الرغبات يحتاجها الدماغ ايضاً لكي يعيش الفرد بسعادة, فهو جزء ضروري ومن متطلبات الحياة البشرية, لذا حاول ان تحول ما تحتاجه الى ما ترغبه من دون التمادي.
مثلاً, نحن جميعاً نحتاج الى الاصدقاء لكي نذهب إليهم عند ضيق الاحوال ونطلب مساعدتهم في الشدائد, لكننا يمكننا ايضاً تحويل هذه الحاجة الى الاصدقاء إلى الرغبة فيهم وقضاء اوقات ممتعة معهم, وليس فقط التواجد معهم عندما نقع في المآزق, لكي لا تعد فقط صداقة مصلحة.
جميعنا نحتاج إلى الملابس ويمكن تحويل هذه الملابس الى رغبات عن طريق لبس ملابس جميلة ومثيرة. وجميعنا نحتاج إلى مأوى ويمكن تحويل هذه المأوى إلى شيء مرغوب يحسن الجلوس فيها ويطيب النفس اليها. هذا الفن في تحويل الحاجات الى رغبات يحتاج الى فنان ذات ذوق ولكن يجب ان لا ينقصه ايضا الزهد في هذه الأمور حتى يمكنه الابداع فيهم من دون تضييع الوقت في واحد منهم.
وأخيراً, يرتبط مبدأ العيش بخفة مع موضوع القوى الأربعة (البقاء على قيد الحياة, الجنس أو التكاثر, الرتبة الاجتماعية, التقليل من الطاقة وتقصير السبل. العيش بخفة مرتبط بالقوة الرابعة الذي هو تقليل الطاقات والمعلومات مع الحفاظ على الكفاءة والجودة, أي التخلص من الاشياء الجانبية التي تعيق عملية العيش في حياتك أو يرهقك من دون فائدة. ولا حاجة للتذكير إن القوة الرابعة هي من أسمى الاهداف البشرية وأعظمها.
فوائد العيش بخفة
نريد هنا فقط أن نحفز انفسنا للسعي اكثروبقوة وراء هذا المذهب المفيد, دعنا نركز على بعض الفوائد الشخصية والمجتمعية له:
فوائده على النفس:
يضمن بقاء حاجاتك الضرورية: من السهل جداً خسارة ممتلكاتك في هذه الحياة أو الانفجار نفسياً من كثرة الضغوطات والمشاكل التي تواجهك, العيش بخفة يجعلك تقتني اشياء قليلة وقتية ام دائمية تحتاجها ومن ثم تتخلص منها بعد عدم الحاجة الى استخدامها, يجعلك تركز على هذه الاغراض فقط دون الانشغال بالاخرى, مما يضمن – بطريقة غير مباشرة – بقاء تلك الحاجات القليلة الثمينة عندك عندما تتوقع خسارة اشياء اخرى. كذلك فهو أداة ماسحة للمشاكل الغير الضرورية من العقل, وهذا ما يجعل يومنا أكثر بساطة وتركيزاً.
الحرية والتحرر من الاغراض المقيدة: كلما تراكمت الاشياء, وازدادت المعلومات في الاذهان, وكثرت الاصحاب والاقارب, وتعددت ساعات العمل, كلما قلت الحرية وكبرت المسؤولية والانشغال. العيش بخفة يحررك من تلك القيود, يحررك من قيود الزمان والمكان, مما يمسيك متأقلماً مع كل مكان وزمان وحال, تكسب عندها القدرة على التغير ومجاراة الاحداث بسرعة إن لم تكن ثقيلاً مليئاً بالمسؤوليات والاغراض المقيدة.
التخفيف من التوتر والقلق : ترك بعض الامور في الوراء, يخفف عنك بالطبع عبأ التوتر والقلق على فقدانهم, بل يجعلك تُقيم الاشياء البسيطة التي تمتلكها, والحاجات التي ضاعت قيمتها في بحر من الادوات الفائضة. تقضي يومك منشغلاً فعلاً بحفنة من الامور الضرورية و الواقعية بدلاً من التفكير في شتى أمور فوضوية التي تملئ حياتنا بسبب كثرة الاصدقاء والاغراض والاعمال.
قليل الاعتماد على الآخرين: بالابتعاد قليلاً عن الناس, والإعتزال عن الأشخاص الغير الضرورين, يجعلنا أقوياء مستقلين غير معتمدين على الناس في التقدم نحو الأمام. ولكنه لا يعني ايضا الاعتماد الكامل على نفسك, البساطة يعني ان تتوسط في المسؤوليات وكذلك يجب عليك ان تتوسط في إن لا تصبح عالة على الآخرين.
جودة حياة أفضل : من ناحية جودة حياة الفرد المختار لهذا الدرب الخفيف وهذه الحياة المريحة, سوف يعيش شعورا افضل من الاخرين في المجتمع بقدرته على ضبط مشاعره وممتلكاته وصحته.
فوائده على المجتمع: ماذا لو تبنى الجميع مذهب العيش بخفة؟
التقليل من الخسائر المادية : لو تمكنا من تحليل نفايات مجتمعنا, لوجدناها مليئة بالاغراض الفائضة والاطعمة الزائدة التي نشتريها كل يوم دون القدرة على استهلاكها او الاستفادة منها, فإذا تبنى المجتمع بأكمله العيش بخفة, وتركوا ما لا يريدونه أو يحتاجونه من الاطعمة الفائضة والحاجات المشتراة التي لا تستخدم او نادرة الاستعمال, بالتأكيد سوف نرى القليل من هذه الخسائر المادية.
التقليل من المشاكل الاجتماعية الغير الضرورية : على مر التاريخ, حدثت عديد من المعارك العظيمة بسبب الاستحواذ على المصادر المحدودة والاراضي الغنية, والعديد منها لم تكن ضرورية للدولة المهاجمة بل كانت طمعاً للسيطرة على المزيد والسعي وراء المجد المعنوي, تماماً مثلما تفعله الدول المعاصرة من اثارة الصراعات بين الشعوب المختلفة. نقدر أن نجزم إن هذه الحروب المادية ستقل إلى اقصى حدها عندما يتبنى الشعوب مذهب العيش بخفة ويأخذ ما يحتاجه فقط دون التفريط في جمع ممتلكات الآخرين. كذلك الامر بالنسبة للصراعات السياسية داخل الدولة نفسها التي تورط مجاميع مختلفة من الناس مع بعضها بشكل سلبي.
تفكك الجدار بين الاغنياء والفقراء : الثغرة التي هي بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة تتوسع يوماً بعد يوم نتيجة تراكم ممتلكات الاغنياء على حساب الفقراء. مالم يقم الاغنياء بالتخلص لبعض من اغراضهم الفائضة الغير الضرورية لمعيشتهم ومعيشة عوائلهم, فسنشهد مشهداً محزناً في المستقبل. مذهب العيش بخفة يجعل الاغنياء يقتنون اغراض مهمة لحياتهم اليومية والمستقبلية ويتخلون عن الماديات المفرطة التي لا تفيدهم لحل معضلاتهم الخاصة.
كيف تبني مبدأ العيش بخفة
يجب أن نبدأ بالتدريج : العيش بخفة يتطلب بعض من الوقت لكي يرسخ في حياتنا اليومية الروتينية. فهو يتطور بالتدريج ويجب عليك أن تترقى بالتدريج, وفي البداية ستكون الرحلة شاقة لا شك فيها, وقد لا تفلحُ في العيش بخفة في جميع مجالات الحياة بدفعة واحدة أو بالمحاولة الأولى. العيش بهذه الطريقة ليس سهلا, واتخاذ هذا المذهب يعني ان تكون واعيا من نفسك ومن مشاعرك ومن افكارك ومن تصرفاتك. وبعد ان يتعود العقل والجسد على هذه الطريقة, سوف يهون الامر ويصبح روتينا عاديا في الحياة. فاذا غيرت شيء بسيط من حياتك كل اليوم فسوف تصل في النهاية الى حياة خفيفة.
تخصيص وقت لنفسك : تخصيص وقت لنفسك وعزل نفسك فقط لمدة قصيرة من اليوم او الاسبوع للتأمل في نفسك وحياتك التي قد تكون فيها إفراط في شيء ما.
البدأ من التخلص من الأغراض المادية أولاً : من السهل معرفة الاشياء الزائدة البديهية, لأنها حسية وموضوعية وقابلة للحكم على إنها زائدة أو غير ضرورية أم لا. يجب إذاً البدأ بالبحث عن أغراض لا تحتاجها في خزانتك وحول غرفتك ومنزلك.
التذكير بالمبدأ : هناك عديد من الطرق التي يمكنك تذكير نفسك بالعيش بخفة يومياً أو اسبوعياً أو شهرياً, من التطبيقات الهواتف الذكية إلى حل أغراض مادية بسيطة لتذكر بعض الاحداث. تعودْ النفس على تذكر بعض النصوص التي تشجع وتحفز الإنسان للعيش بخفة هو أيضاً مرغوب. الإذكار هي مؤقتة بالطبع حتى يتمكن العقل بتبني الأسس.
بعض الملاحظات الإضافية
الخفة تعني ايضاً أن تكون سريعاً في رد الفعل للاحداث التي تحصل في حياتك. فإن كانت هذه الاحداث والمواقف مؤثرة جدا بالنسبة لك ويصعب عليك تول الى ما بعدها, فاعلم انك استثمرت وثقلت في الحياة. اما سرعة التأقلم وسرعة الاستجابة على كل المشاكل التي تضربك, تعني انك في حال الخفة مثل الريش, تذهب اينما ذهبت الرياح. والحياة ليست ثابتة وصلبة في ظرف واحد, ” دوام الحال لا محال ” كما يقولون. لكي تعيش, عليك أن تتغير.
امتلاك تكنلوجيات سريعة وكفوءة أكثر من السابق هو من اهداف العيش بخفة, مثل اقتناء لابتوب المحمول بدل الكومبيوتر المنزلي الكبير, أو اقتناء هاتف ذكي اقوى من السابق عملياَ وأكفأ منها بالرغم من أنها تشغل نفس الحيز, يتسنى لك عندها من ترك أعباء زائدة بلا طائل وتجنب الآثار الجانبية الغير المرغوبة.
التخفيف من وزن الجسم هو أيضاً من متطلبات العيش بخفة, لأنك تترك وراءك أوزاناً غير قابلة للاستخدام في وقتنا المعاصر. وهنا يجب أن ننتبه إن العيش بخفة لا تعني إنقاص الوزن إلى حده الأدنى أو إلى درجة المجاعة, مثلما كان يفعله بوذا وغاندي, هذا لا يدخل ضمن المذهب.
العيش بخفة لا يعد شيئا مادياَ فقط, بل هو مذهب فكري أيضاً, ويملي عليك أن تقترب من مشاكل التي تواجهك بايجاد ابسط الحلول وأقلها تكلفةً.
الخاتمة
ما الذي تفعله في هذا الفراغ المكاني والزماني؟ بأي شيء تملي هذا الفراغ؟ الأمر برمته بيدك, يمكنك أن تفعل ما تريده ما دمت لا تفرط فيه, لعلك ستمضي أوقاتاً أكثر مع اشياء تحبها بدلاً من المضي في السعي نحو الإفراط والإلتهاء بأهداف غير قابلة لتحقيق. نريد أن نعيش خفيف العقل, خفيف الجسد, خفيف القلب. وخفيف القلب معناه ان لا تستثمرفي علاقات كثيرة مع عديد من الاشخاص, اقتصر علاقتك مع اشخاص مهمين في حياتك. العيش بخفة يتبين بوضوح عندما ترحل الى مكان ما او تسافر اليه, حينما تتوقع عدم رجوعك, وتدرك أن ما تركته في الديار غير ضروري لبقاءك, فهذه هي واحدة من أسمى درجات العيش بخفة.
أن تكون خفيفاً لا يعني أن تكون متصوفاً أو زاهداً في الحياة أو بوذياً, تاركاً كل ما تملكه لتذهب للعيش وحيداً في جبل ما. أن تكون خفيفاً معناه أن تعيش حياةً سلساً مرناً, خالياً من الأغراض المادية الزائدة والأفكار الإضافية, ستنتقل بعدها بسهولة بين الأنظمة (Systems) والإنتظامات (Orders) الأخرى القريبة من نظامك, ستصبح قادراً على التكيف مع جميع البيئات الأخرى, ومرتاح البال في شتى الأحوال والظروف, ستتجول بلا خوف خارج فقاعتك وحدودك الشخصية, وعندما يأتي الموت المحتم, ستكون بالتأكيد أقل تشبتاً بالحياة من الآخرين الذين جمعوا الماديات وتحملوا مختلف المعنويات القاسية إلى حد الإفراط, ستنتقل من الأرض عالِماً أنك حققت أهدافك الرئيسية المهمة وتركت خلفك إرثاً لا ينسى و صفةً يُقتدى بها.